ضمن سلسلة التحقيقات والشهادات الموثَّقة حول انتهاكات حقوق الانسان التي ارتكبها "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش) في سوريا، أصدر "متحف سجون داعش" (راجع مقالة "المدن" بعنوان "متحف سجون داعش...ذاكرة للمستقبل") ملفّاً توثيقيّاً خاصّاً بمجزرة الشعيطات التي ارتكبها "داعش" في شهر آب/أغسطس 2014 في ريف دير الزور.
وهذه هي المرّة الأولى التي تصدر فيها دراسة موسّعة تشرح سياقات المجزرة وخلفيّاتها ونتائجها بعدما تتبَّعَت مُجْرياتها يوماً بيوم مع ما تَخَلَّلها من عنفٍ وقتل وحشيّ. كما أنّ هذه الدراسة التي أعدّها الباحثان ساشا العلو وأيمن علاو، قد أعادَتْ ضبط وتنظيم جميع البيانات الصادرة عن ضحايا المجزرة، كما عمِلَتْ على تحليلها وربطها ببيانات المقابر الجماعية، بالاعتماد على عشرات المقابلات المصوّرة أو الصوّتية مع أهالي الضحايا والناجين، كما مع وجهاء وأفراد العشيرة مِمَّن شهدوا الحدث.
تُعْتَبر مجزرة الشعيطات أحد أكبر أحداث القتل الجماعيّ في سوريا، إذ سقط ضحيتها أكثر من 814 قتيلاً، ما يجعلها، من الناحية العدديّة، ثاني أكبر مجزرة في سوريا، بعد الهجوم الكيماوي الذي نفَّذه نظام بشّار الأسد في غوطة دمشق الشرقيّة صيف 2013، والثالثة بعد مجزرة حماة على يد حافظ الأسد في 1982. وهي الأكبر على يد "تنظيم الدولة" إبّان فترة صعوده في سوريا. هذا ولا يزال عدد ضحاياها يتزايد حتى يومنا هذا. وقد خلّفت هذه المجزرة آثاراً لا تُمحى مِنْ ذاكرة العشيرة، كما مِنْ ذاكرة السوريّين الجماعيّة.
يحيط ملفّ "متحف سجون داعش" التوثيقيّ والبحثيّ هذا، بكل ما ارتبط بمجزرة الشعيطات من انتهاكات مختلفة تمثّلت في الاعتقالات والتعذيب والإعدامات في عشرات السجون التي أنشئت خصيصاً لأبناء العشيرة، وفي عقاراتهم وداخل منازلهم. ففي هذا الملفّ تُعرَض جولات ثلاثيّة الأبعاد (3D) لثلاثة مواقع احتجاز، تشكّل نماذج عن عشرات أخرى أسَّسها داعش في مناطق الشعيطات. وقد صوّرت الجولات على مراحل زمنية مختلفة، وخضعت للتحليل المعماري الدقيق، وأعيد تجسيدها افتراضياً لتوضيح ما دار فيها أثناء سيطرة داعش، بالاستناد إلى شهادات تسعة ناجين منها.
كما يعرض الملفّ لائحة بـ20 موقعاً اكتُشفت فيها مقابر جماعيّة، وقد حوَت جثامين أو رفات أبناء الشعيطات ممن قُتِلوا على يد عناصر "داعش" بطرقٍ مختلفة في الفترة الواقعة ما بين 3 و30 آب/أغسطس 2014. إضافة إلى ذلك، يورِد الملفّ 19 شهادة مُسجّلة بالفيديو أو بالصوت فقط، بعضها لناجين من سجون داعش في مناطق الشعيطات، وبعضها لسيِّدات من ذوي ضحايا المجزرة.
تعاون "متحف سجون داعش" في إنتاج الملف مع "رابطة عائلات ضحايا الشعيطات"، التي كانت قد أجرت مسحاً لأعداد الضحايا. وقد أعاد فريق المتحف تحليل هذا المسح، إضافة إلى مشاركة الرابطة مجموعة من الوثائق والصور التي ساعدت في بناء صورة متكاملة عن مجزرة الشعيطات، وذلك تكريماً للضحايا ودعماً لذويهم، وتأريخاً لحدَثٍ هو من أضخم الأحداث، وقد حمل بذاته ملامح إبادة جماعية في سوريا، وذلك بُغية تعزيز الإجراءات القانونيّة على المستوى الدوليّ تجاه عناصر داعش السابقين، والمساهمة بالتالي في تحقيق العدالة.
العدالة تبدأ بالاعتراف
يقول مدير "متحف سجون داعش" عامر مطر: "نعمل في متحف سجون داعش، على جمع الشهادات الحيّة، وتحليل الأدلّة الجنائية، وتوثيق قصص الضحايا وعائلاتهم، بهدف تسليط الضوء على جرائم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وإبقائها في الذاكرة الجَمعيّة، كما نركز على توفير مِنَصَّة للعائلات تشارك عبرها معانياتها، مع تعزيز الجهود القانونية لمحاسبة مُرْتَكِبي هذه الفظائع". واعتبر مطر أن "توثيق مجزرة الشعيطات ليس عملاً أرشيفياً وحسب، بل خطوة أساسية نحو تحقيق العدالة، وضمان عدم تكرار مثل هذه الجرائم في المستقبل".
كما دعا مطر "الجهات الحقوقيّة كافة والإعلاميّين والمؤسَّسات الدولية إلى التعاون معنا لنشر الوعي حول هذه القضية، وضمان تحقيق العدالة للضحايا وذويهم، إذ نؤمن أن العدالة تبدأ بالاعتراف، ونحن ملتزمون بإبقاء هذه الجرائم حاضرة في الأذهان، وبدعم الجهود المحليّة والدوليّة لمحاسبة الجناة".
إعادة التوثيق وضبط السرديّة
وصرّح الباحث في ملف مجزرة الشعيطات ساشا العلو أنه "بالرغم من مرور أكثر من عشرة أعوام على هذا الحدث، وما بُذِل في خلالها من جهود حقوقيّة وإعلاميّة في سبيل تغطيته، فإنّ العديد من جوانبه لا يزال مُلتبساً، خصوصاً على مستوى التوثيق والسرديّة، إذ لم تحظَ المجزرة بالدرجة الكافية من الدراسة والتوثيق المنهجيّ، سواء على مستوى شرارة الحدث ذاته وملابساته وسياقه السابق واللاحق، أو على مستوى رسم خطّ زمنيّ واضح للمجزرة مدعوم بالوثائق الكافية والتواريخ والشهادات". أضِف إلى ذلك "مستوى البيانات والأرقام المتعلقة بالضحايا، والتي ما تزال إشكاليّة في ظل تعدّدها وتفاوتها بين جهة وأخرى". وأفاد العلو أنه "لم يسبق أن جرى التعمّق في دراسة تبعات الحدث، وما طرأ في خلاله من أنماط عنفٍ متعدّدة وعلى مراحل زمنيّة مختلفة، خصوصاً أنماط العنف الأدائيّ التي استعملها "داعش" في تنفيذ المجزرة، والتي عكَست فلسفة "إدارة التوحّش" التي اعتمدها في خلال توسّعه وفرض نفسه كسُلطة حاكمة في بعض مناطق سوريا والعراق".
وبحسب العلو، تسعى هذه الدراسة "الى إعادة توثيق وتشكيل الحدث وضبط سرديّته، وإلى توفير أساسٍ معرفي للبناء عليه في مسارات مختلفة، خصوصاً المسارات الحقوقية التي لا تزال مُعلَّقة ومفتوحة، وذلك بسبب وجود أعداد كبيرة من المفقودين، وبسبب تواصل اكتشاف المقابر الجماعية، ناهيك مِنْ تورُّط عدد كبير في هذا الحدث الذي يُشكِّل جزءاً من مسار عدالة طويل. وأضاف: "هذا ما يسهم في تأمين أرضيّة معرفيّة قد يُبنى عليها من أجل استكمال دراسة وفهم سلوك "تنظيم الدولة" في سوريا، والتفاعُلات المحلية الاجتماعية-العسكرية إبّان سيطرته".