ترحيب الكرملين بطلب ترامب أن تتولى روسيا دور الوسيط بين إيران والولايات المتحدة، على الأقل، كان مثيراً للاستغراب. فمنذ خطاب بوتين في ميونيخ العام 2007، وإعلانه ابتعاد روسيا عن الغرب وتوجهها نحو الشرق، لم يوفر بوتين جهداً لتوسيع الهوة مع هذا الغرب، والعمل على تشكيل نظام عالمي متعدد القطب يحل مكان العالم الذي تتفرد الولايات المتحدة بزعامته. وبعد غزوه أوكرانيا ضاعف جهوده لتصوير صراعه مع الغرب عبر أوكرانيا، بأنه صراع وجودي.أسئلة كثيرة أثارها قبول الكرملين بدور الوساطة هذه بين "عدوته" أميركا وحليفته إيران، التي وقع معها اتفاقية شراكة استراتيجية مطلع العام الجاري. فالوضع على جبهة القتال مع أوكرانيا يتطور لصالحه في المدة الأخيرة، وليس بحاجة إلى الهدنة التي اقترحها ترامب وحال دون تنفيذها. وإمبراطورية البروباغندا التي أقامها لا تنفك تردد بأن روسيا لن تقبل أقل من النصر التام، الذي يحقق كل أهدافها المعلنة في الحرب على أوكرانيا، وإخضاع الولايات المتحدة وأوروبا للشروط التي وضعتها في نهاية العام 2021، عبر الوثيقتين اللتين تقدمت بهما حينها للولايات المتحدة.
لكن، وعلى الرغم من كل ما تؤكده بروباغندا الكرملين، يكاد يجمع المحللون الدائرون في فلكه على أن روسيا قليلة الحيلة في التأثير على تطور الوضع المحتدم بين إيران والولايات المتحدة. والكرملين نفسه يدرك بالتاكيد حجم الفارق الكبير بين ما تنشره آلته الدعائية وبين إمكانيات روسيا الفعلية، خصوصاً بعد الضربات المؤلمة التي تلقتها في الشرق الأوسط، وأخرجتها منه عملياً مع سقوط حصنها في سوريا.قد يكون إدراك الكرملين لهذا الفارق بين البروباغندا وإمكانيات روسيا الفعلية وطموحاتها المضمرة، هو أحد الأسباب التي دفعت به لقبول دور الوساطة بين حليفه و"عدوه". وشبه الغياب الكلي في الفترة الأخيرة للخطاب المعادي للغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، عن إعلام الكرملين، يشير على الأغلب إلى أن هذا الخطاب لم يكن يهدف إلا إلى تحسين شروط التقارب مع هذا الغرب من جديد، كواحد من سبل رفع عقوباته المفروضة على روسيا.
من السذاجة الاعتقاد بأن الكرملين يضحي بكل الجهود والخسائر التي تكبدها في مجابهته مع الغرب عبر اوكرانيا، في سبيل دور وساطة في واحد من الصراعات الملتهبة في العالم، والتي يكثر منها ترامب هذه الأيام. لكن بعض إعلام الكرملين يغالي في تقييم حجم هذه الوسطة الجيوسياسي، ويرى فيها كسباً استراتيجيا ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل وفي العالم أيضاً. فقد نشر في 3 الجاري موقع eadaily المتخصص بشؤون منطقة أوراسيا نصاً، نقل فيه عن صحيفة البرافدا الروسية قول أحد كتابها إن إيران وإسرائيل وروسيا على عتبة حرب كبيرة.استرسل الكاتب في البرافدا Yuri Bocharov في الحديث عن تفاصيل تطورات المجابهة القائمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، وكيف أن التطورات تخطت الخطوط الحمراء وتقترب من الانفجار الكبير. وينتهي في نصه المطول إلى القول بأن العالم يواجه جولة جديدة من الصراع الإقليمي الذي قد يتطور إلى حريق يلتهم ثلاث قارات. ولم تعد هذه مواجهة سياسية، إذ أن اللوجستيات التي يجري حشدها، هي تلك التي تسبق الحرب.
صحيح أن المسؤولين لا يزالون يستخدمون كلمات مثل "الدبلوماسية" و"خفض التصعيد" و"الجهود متعددة الأطراف". لكن مع كل يوم يمر، يرتفع منسوب التوتر الذي تحمله هذه الكلمات، وتبدو كأنها إعداد للعاصفة الحتمية. لكن ما زال هناك فرصة للتراجع، مع أن العد التنازلي أصبح بالأسابيع، إن لم يكن بالأيام. وفي هذه اللحظة يمنح التاريخ فرصة لموسكو بأن تكون عامل الاستقرار والوسيط والمفاوض، وهي التي اتهمت أكثر من مرة يتصعيد التوتر في الصراعات.
ويقول إن من المفارقة أن الدولة التي اتُهمت بتقويض الأمن الدولي هي التي تستطيع أن تضمنه اليوم. وليس لأنها تغيرت، بل لأنها بقيت الوحيدة التي تتحدث إلى جميع الأطراف. ويرى أنه إذا تولى بوتين دور الوسيط بين الولايات المتحدة وإيران، فقد لا يكون هذا مجرد انتصار جيوسياسي كبير لموسكو، بل قد يكون أيضا الفرصة الأخيرة لتجنب حرب كبرى جديدة. ويقول إن العالم لم يتخط بعد نقطة اللاعودة، لكنها أصبحت واضحة للعيان. وإذا نجحت الدبلوماسية هذه المرة، فإن "التاريخ قد لا يتذكر أولئك الذين مزقوا أثوابهم، بل أولئك الذين ارتدوا بذلة المفاوض".موقع المطبوعة الأميركية التي تصدر بالروسية أيضاً The Moscow Times نشر في 6 الشهر المنصرم نصاً بعنوان "بوتين مبعوث ترامب، أو الدبلوماسية الإجرامية"، وأرفقه بآخر ثانوي "مشاركة بوتين، وإن كانت شكلية، في السياسة على أعلى مستوى تتوافق مع خطط ترامب "لاسترضاء" النظام الروسي".
استهل الكاتب المعارض المعروف Mikhail Krutikhin نصه بالنقل عن وكالة بلومبرغ قول مصادرها إن ترامب طلب من بوتين أن يقوم بدور الوساطة في المفاوضات مع طهران حول البرنامج النووي الإيراني. وكان ذلك خلال الحديث الهاتفي بين الزعيمين في شباط/فبراير المنصرم. وحسب الوكالة فقد وافق بوتين على الطلب.رأى الكاتب أن دور روسيا في الحوار بين القيادة الأميركية والإيرانيين واضح، إذ أن بوتين لن يقوم بدور الوسيط، بل، على الأغلب، بدور ساعي البريد الذي يكلفه الرئيس الأميركي بنقل قائمة المطالب مع شروطها. وليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن موسكو سيُسمح لها بتعديل رسالة ترامب بطريقة أو بأخرى من خلال إدراج أحكام إضافية أو إزالة أخرى "غير ضرورية". وذلك لأن بوتين ليس مشاركاً ذي صلاحيات في العملية، واختاره ترامب لتوفر عاملين يساعدان في قيام بوتين بهذا الدور:
أولاً، إن الدول الغربية مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا ليست مناسبة للحوار مع الإيرانيين. إذ لا أحد يثق بهم في طهران. فقد أيدت هذه الدول العقوبات ضد طهران، وغالباً ما تقف إلى جانب إسرائيل. وبالنسبة للعرب، لدى ملالي إيران الشيعة حساباتهم الخاصة معهم. وروسيا التي تحتفظ بعلاقات عمل مع الأنظمة والمجموعات الإسلامية بغض النظر عن راديكاليتها، هي المرشح المقبول من كلا الطرفين.
ثانياً، إشراك بوتين، وإن شكلياً، في السياسة على أرفع المستويات، يتوافق مع خطط ترامب "لاسترضاء" النظام الروسي بهدف إنهاء حرب روسيا ضد أوكرانيا.لكن الكاتب يستدرك بالقول إن العاملين ليسا بلا عيوب. فالمراقبون الشرق أوسطيون يصرون على أنه لا يمكن إعتبار روسيا وسيطاً محايداً في المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني. ويزعم هؤلاء أنها تشارك مباشرة في جهود إيران للحصول على التكنولوجيا النووية، وتساعدها في تصنيع الصواريخ الباليستية الحاملة للرؤوس النووية.
ويرى الكاتب أن ترامب ربما يراهن على احتمال أن "يبيع" بوتين مصالح روسيا في البرنامج العسكري الإيراني، من أجل رفع مكانته من ملاحق من قبل المحكمة الجنائية الدولية إلى مشارك في السياسة الدولية الكبرى. لكن صحة حساب ترمب هذا ليست مضمونة على الإطلاق، تماماً كما ليس مضموناً وقف إطلاق النار في أوكرانيا بموجب "صفقة ترامب" الغامضة.
يشكك الكاتب في نجاح خطة نرامب للحؤول دون حصول إيران على السلاح النووي، ويقول إن برنامج إيران النووي يتقدم بوتيرة متسارعة، وظهور أول قنبلة ذرية إيرانية يصبح سيناريو متزايد الواقعية.