في ظل ما يعيشه لبنان من أزمات متلاحقة، تتنافس مشاريع إقليمية ودولية تحمل في طياتها أبعادا تتجاوز الجغرافيا، لتلامس جوهر السيادة ومصير الشعوب.
من بين هذه المشاريع، يبرز ما يُعرف بـ”طريق داوود” أو “ممر داوود”، وهو ليس مجرّد خطة لوجستية تربط الكيان الإسرائيلي بدول الخليج عبر الأردن والسعودية، بل هو مشروع ذو بعد سياسي وأمني واقتصادي يهدّد البنية الهشّة التي ما زال لبنان يحاول التمسّك بها وسط تجاذبات الانهيار.
لا يظهر لبنان في الخرائط المباشرة لهذا المشروع، لكنه في صميم المسار المحتمل لتغيير موازين القوى الاقتصادية في المنطقة. وحين تُعاد رسم خرائط التجارة والنقل والطاقة دون أن يكون لهذا البلد الصغير دور أو منفذ أو صوت، تتراجع مكانته أكثر في سلم المصالح الدولية.
ومع انفتاح بعض الدول العربية على التطبيع وتسريع وتيرة العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل، يجد لبنان نفسه في عزلة شبه كاملة، يدفع ثمن مواقفه السياسية من جهة، وغياب رؤى اقتصادية واضحة من جهة أخرى.
التطور التكنولوجي في قلب هذا المشروع ليس تفصيلًا تقنيًا.
إسرائيل التي توظّف الابتكار الرقمي والذكاء الاصطناعي لتأمين تفوّقها، لا تتوقف عند حدود جيوسياسية، بل تخترق الأسواق والاذهان، وتفرض أجندتها من خلال السيطرة على مسارات البيانات والطاقة والتجارة.
لبنان، الذي كان يومًا منارة للعلم والثقافة، يبدو اليوم عاجزًا عن مواكبة هذه القفزات، لا بسبب غياب الكفاءات، بل بسبب انعدام البنية التحتية، والهجرة القسرية للعقول، وانشغال الدولة بصراعات داخلية تقضم من طاقاتها.
لبنان ليس دولة معزولة جغرافيًا، بل هو عقدة تاريخية في تقاطع الطرق، لكنه اليوم يبدو وكأنه يُقصى او يقصي نفسه عن كل طريق. طريق الحرير الجديد يمر خارجه، وممر داوود يتجاوزه، وممرات الطاقة تتجاهله. الأزمة لم تعد فقط مالية أو نقدية، بل هي أزمة رؤية، وأزمة موقع، وأزمة معنى ووجود لدوره “الرسالة”.
التكنولوجيا التي تشكّل لغة العصر تُستخدم لأجل بناء مجتمعات رقميّة واقتصادات معرفيّة، فيما لا يزال اللبناني يُحارب ليحصل على كهرباء أو اتصال بالإنترنت!
المخيف في كل ذلك ليس فقط فقدان الأمل، بل التعوّد على فقدانه.
أن يصبح العجز طبيعيًا، والغياب مقبولًا، والخروج من المعادلات الكبرى أمرًا لا يُناقش. وإذا لم يعد لبنان يفاوض على دوره، ولم تعد نخبته تقرأ الخرائط كما يجب، فإن من الطبيعي أن يتحوّل من لاعب إلى هامش، ومن عقدة وصل إلى هامش جغرافي على طريق لا يمرّ به.
إن مشروع “طريق داوود”، في جوهره، ليس مجرد ممر، بل إعلان صريح عن مرحلة جديدة تُصاغ فيها العلاقات الإقليمية بلغة المصالح لا المبادئ، وبقوة التكنولوجيا لا الحضور الثقافي.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح اليوم في لبنان، ليس فقط كيف نواجه هذا المشروع، بل كيف نستعيد القدرة على أن نكون طرفًا يُحسب حسابه في زمن تُكتب فيه المعادلات بالحبر الرقمي لا بالحبر السياسي فقط.
الكاتبة: البروفسورة وديعة الاميوني
استاذة جامعية وباحثة اجتماعية
موقع سفير الشمال الإلكتروني