لم تنقطع الاتصالات بين إيران والولايات المتحدة من خلال سلطنة عُمان، التي لعبت ولا تزال تلعب دور الوسيط الصادق الحريص على الوصول إلى اتفاق بينهما، وتجنيب المنطقة المزيد من التوترات والصراعات والصدامات والحروب. كانت الاتصالات تتوقف من وقت لآخر، في ظروف تحكم حسابات هذا الطرف أو ذاك. الإدارات الأميركية المتعاقبة قبل عودة ترامب إلى الرئاسة منذ أشهر، كانت تريد الوصول إلى اتفاق. ترامب الأول انسحب من الاتفاق الذي وقعه أوباما عام 2015. بايدن حاول العودة إليه راغباً في تحسين الشروط. تقدّم مشروع إيران النووي. ثم جاءت الحروب على غزة ولبنان والضربات الإسرائيلية ضد إيران. وإسرائيل كانت ولا تزال ترغب في عدم الوصول إلى اتفاق، وتصرّ على ضرب المنشآت النووية الإيرانية. نتائج الحرب المذكورة، وما يجري اليوم ضد الحوثيين، والضربات الأميركية العنيفة المتتالية التي تستهدفهم، أعطى جرعات متتالية لقادة إسرائيل لتكريس قناعتهم بضرورة توجيه ضربة قاسية ضد إيران، التي تراجع نفوذها بعد التطورات في لبنان وغزة وسقوط النظام السوري، وخروجها من سوريا عسكرياً وإقفال سفارتها، وإخضاعها لرقابة مشددة في لبنان، ومنع طائراتها من الهبوط في مطاره. الخيارات أمام إيران باتت محدودة، على حد قول وتهديدات ترامب "إما الاتفاق وإما الآتي أعظم، والقصف المؤلم الذي لا مثيل له ينتظرها". مع تكرار ترامب دائماً: "لا نريد استهداف النظام. نريد رؤية الشعب الإيراني عظيماً ويعيش بأمان في دولة متطورة وإيران لديها حضارة غنية..".إيران استخدمت كل أساليب المناورة وعدة الشغل في أكثر من موقع، ولعبت على الوقت، وعلى الموازين والمعادلات القائمة في المنطقة، وعلى العلاقات مع الصين وروسيا وتركيا. ذات يوم قال لي أحد كبار المعنيين بحسابات إيران والمطّلعين على مواقفها، ونقلاً عن رئيس مجلس نوابها السيد قاليباف: "إذا تطورت الأمور في لبنان سوف نتدخل مباشرة. لن نقف مكتوفي الأيدي". لم أقتنع بما قيل، وجاءت الأحداث لتثبت ذلك. اغتالوا السيد نصرالله ثم السيد هاشم صفي الدين، وحلّ ما حلّ بنا قبل وقف إطلاق النار وبعده. وخسارة السيد نصرالله لم تكن خسارة عادية في المعركة. بغيابه طويت صفحة في المنطقة وليس في لبنان فحسب. ثم الآن بدأ الحديث عن استعداد للتفاوض وعدم تدخل في اليمن، وعن جماعات مدعومة من إيران في العراق تستعد لنزع سلاحها تحسباً للمرحلة المقبلة. وأعلن وزير خارجية إيران: "لا نقبل بمبدأ التفاوض المباشر مع أميركا لأسباب عديدة واضحة تمّ شرحها مراراً. لكننا أبدينا استعدادنا الكامل للتفاوض من خلال وساطة عُمان. الكرة الآن في ملعب أميركا ونحن بانتظار ردها على اقتراحنا، مع التأكيد أننا لسنا في عجلة من أمرنا".رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتانياهو في واشنطن اليوم، والموضوع الأساس في جعبته محاولة انتزاع موافقة أميركية على توجيه ضربة قاصمة لإيران ومنشآتها النووية. ويستند في ذلك إلى تجربة الضربة التي نفذها الجيش الاسرائيلي في أواخر تشرين الثاني الماضي، وإلى تجربة سابقة أيام رئاسة بيغين لحكومة إسرائيل عام 1981 عندما قصف المفاعل النووي العراقي. اليوم نتانياهو يعتبر أن الظرف ملائم ولن يتكرر، وتوجيه الضربة يريح إسرائيل والعرب، الذين إذا ما قمنا بهذا العمل "تزداد ثقتهم بنا وحاجتهم إلينا"، على حد قوله.نحن أمام أيام حاسمة لا تحمل خطأ في تقدير الحساب، والتعامل مع الفرص المتاحة للوصول إلى اتفاق، لأن البدائل ستكون كارثية.
ماذا ستفعل إيران في وجه "الجراّفة" الأميركية- الإسرائيلية؟ لا أحد يملك سّر الجواب. لكن تجربة السنوات السابقة، وخصوصاً الأشهر الأخيرة، تشير ربما إلى احتمال الدخول في بازار جديد، قد يأخذ وقتاً لإنجاز الصفقة أو سقوطها.. والطريق صعب.
آمل أن يغلّب هذا الخيار على البديل الوحيد: الحرب التي لا مثيل لها بنتائجها الكارثية.