في الخامس والعشرين من أيار العام 2025، في الذكرى الخامسة والعشرين لتحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، تُجرى الانتخابات البلدية والاختيارية في محافظتي الجنوب والنبطية.
انتخابات لن تكون كما سابقاتها، إذ تأتي بعد حرب ألحقت فيها إسرائيل دمارًا غير مسبوق بالجنوب. تُنظم في ذكرى التحرير على أنقاض عشرات القرى والبلدات الحدودية، ومحو كل أثر من مقومات الحياة فيها. انتخابات على وقع هزيمة مُني بها حزب الله على المستوى البشري، وخسارته قياداته في مقدمتهم الأمين العام السيد حسن نصر الله، وعلى المستوى العسكري أمام إسرائيل وتسليمه سلاحه جنوب الليطاني للجيش اللبناني.الحزب خسر المعركة ولم يخسر النفوذالاستحقاق البلدي يأتي بعد حرب هُزم فيها محور الممانعة، وسقط فيها توازن الردع وثلاثية جيش، شعب، ومقاومة. لكن كل هذا لا يعني أن حزب الله وحركة أمل سيخسران المعركة، لا سيما في الجنوب.
صحيح أن البيئة الشيعية، وتحديدًا الجنوبية، تعيش إحباطًا وخيبة ونقمة غير معلنة على قيادتها، لا سيما قيادة حزب الله التي أخطأت في حساباتها في الحرب الأخيرة. لكن استمرار احتلال الجنوب في التلال الخمس، وتمدد هذا الاحتلال، وإقامة منطقة عازلة مدمرة غير قابلة للعيش، إضافة إلى استمرار الاعتداءات والخروقات والاغتيالات والغارات، ومنع إعادة الإعمار إذا لم يُسلم سلاح حزب الله، ليس فقط جنوب الليطاني، بل أيضًا شماله، حوّل الإحباط والنقمة إلى شد عصب وتعاطف، وهو ما عزز حضور حزب الله من جديد، ودفع بالكثير من البيئة إلى إعادة النظر بمواقفهم. وهم يرون أن حزب الله، حتى لو خسر الحرب والسلاح في الجنوب وتوازن الردع، إلا أنه لا يزال يشكل ضمانة وقوة لهم في مواجهة إسرائيل رغم كل شيء. ما يحدث اليوم عزز شعبية الثنائي (أمل وحزب الله)، من باب الشعور بأن الطائفة مستهدفة، وأن الثنائي بوحدته يشكل ضمانة لحمايتها. لذلك، يرى الثنائي أن مصلحته ومصلحة طائفته تقتضي أن يخوض الانتخابات البلدية والاختيارية بلوائح موحدة. وفي معلومات "المدن"، أن ماكينات الثنائي في الجنوب وحتى في البقاع، وفي كل قرية وبلدة "شيعية خالصة"، تعمل على حياكة توافقات بين العائلات والمحازبين لتشكيل لوائح مشتركة مقفلة، وسحب أي بوادر لتشكيل لوائح أخرى في وجهها، حيث يمكن أن "يمون الثنائي"، وبالتالي، تتحول الانتخابات إلى تزكية أو شبه تزكية في العديد من القرى والبلدات. في قراءة البعض للميدان الانتخابي في المناطق الجنوبية على وجه الخصوص، يصعب أن تشق لوائح منافسة للوائح الثنائي طريقها إلى المجالس البلدية، أو أن تحرز بعض الترشيحات المستقلة والفردية أي فوز، خصوصاً وأن الانتخابات البلدية والاختيارية تُجرى وفق النظام الأكثري وليس النسبي: "إذا حصلت هذه الانتخابات في موعدها، سيتمكن الثنائي (أمل وحزب الله) من تحقيق فوز كبير في قرى وبلدات الجنوب، والمعارضة إما ستكون خجولة أو غير ممثلة". في القرى والبلدات حيث لحركة أمل وحزب الله قوة انتخابية، يعمل الثنائي على التزكية قدر المستطاع، لكنه سيشكل في الوقت ذاته لوائح توافقية دون استثناء، مستفيدًا من حالة التعاطف الشعبي. ومنذ أسابيع، بدأت خلية التنسيق المشتركة بين أمل وحزب الله لقاءاتها المكثفة على مستوى المناطق، لرسم خريطة توافقية تشمل أكبر عدد ممكن من البلدات، لا سيما تلك التي شهدت دمارًا واسعًا أو نزوحًا جماعيًا في الحرب ولم يسمح لأهلها بالعودة إليها حتى اليوم.معارضة بين الدمار ولوائح الشهداءفي قرى مثل الخيام، بنت جبيل، عيترون، ميس الجبل، حيث عادت الحياة بخجل، تعمل الماكينات الانتخابية للثنائي بهدوء. فالمعركة ليست سياسية، إنما وجودية ضد الظروف الإنسانية والاقتصادية القاهرة. وبحسب أحد المسؤولين الذي يعبر عن موقف الثنائي: "أي عاقل يريد الذهاب إلى مواجهة سياسية على أنقاض قرى وبلدات، تنتظر عودة الحياة إليها من خلال العودة الكاملة لأبنائها وإعادة إعمارها."
ما ينطبق على قرى الحافة الأمامية ينطبق على المدن الكبرى مثل صور، النبطية، بنت جبيل والخيام المدمرة. مصادر ناشطة على الأرض الجنوبية قالت لـ"المدن": "من سيخوض معركة في الخيام المدمرة ضد الثنائي؟ من سيخوض معارك ضد لوائح ستعلن أن معركتها هي معركة باسم عشرات ومئات الشهداء الذين لا تزال جثامين بعضهم مفقودة أو مطمورة تحت الأنقاض؟ الالتفاف حول الثنائي كبير". هذا الجو التوافقي لا يعني غياب الأصوات المعارضة داخل البيئة الشيعية. لكن هل هذه الأصوات تبقى محدودة الحضور، مع سقوط الرهانات على شرذمة البيئة الموالية للثنائي وإضعافها، واستغلال الخسائر التي مُنيت بها بسبب حرب الإسناد التي فتحها حزب الله؟ صحيح أن هناك بعض المحاولات المستقلة لخوض الانتخابات، تارة من قوى معارضة، وطوراً من عائلات اعتادت أن يكون لها الكلمة في مثل هذه الاستحقاقات، لكن الثنائي، نظرًا للظروف الاستثنائية لا سيما في الجنوب، يسعى إلى احتوائها بالتفاهمات الانتخابية.الخطر الوجودي: رسالة للداخل والخارجفي الجنوب المعاقب اليوم، تأتي الانتخابات البلدية والاختيارية ليست كاستحقاق تنافسي، بل كمعركة إثبات الوجود والهوية. قد يكون حزب الله خسر الحرب، وتلقى ضربة سياسية وعسكرية قاسية، لكن المعركة في صناديق الاقتراع تبدو محسومة سلفًا، لبيئة اختارت، رغم خيباتها، الاصطفاف مع من ترى فيه درعًا يحميها في زمن الانكشاف والدمار. وبين ركام المنازل ولوائح الشهداء، قد تمر الانتخابات بلا منافسة تُذكر، لكنها حتمًا ليست بلا دلالات ورسائل واضحة للخارج والداخل.
إذا كان الجنوب ومعه لبنان معاقبًا كما سبق وأعلن الرئيس نبيه بري، فالرسالة للخارج هي أن إجراء الانتخابات سواء في منازل جاهزة أو في خيم، أو الإتيان بمجالس بلدية جديدة بالتزكية، يعني أن المعادلة السياسية التي أرساها الثنائي لسنوات في الجنوب لن يُلغيها الاحتلال الإسرائيلي ولا اعتداءاته. أما بالنسبة للداخل، فإن الثنائي يبقى المتحكم الأول بساحته، وهو سيكون المفاوض الأول والأقوى في أي تحالفات سيؤسسها للانتخابات النيابية في ربيع العام.