استفاق السوريون بعد ليل طويل غشيه السهاد والاضطراب، على لحظة تاريخية غير مسبوقة، اختلطت فيها أحلام الفقراء ورومانسية الشباب ومشاريع جماعات حزبية، وكذلك أطماع خارجية غير متسقة.
غابت سوريا، عبر الحقبة الأسدية (حافط الأب + بشار الابن)، عن نفسها، وانفصلت عن سياقها الطبيعي، بشكل جعل ملامحها الذاتية المضمرة في حالة من العطالة شبه التامة.
وهي (سوريا) من هذه الوجهة ، كانت "غيرها"، ولم تكن "هي".
هذا الفصام، وباستمراره طويلا خلال أكثر من نصف قرن، كاد أن يكون التشكيل النهائي للملامح الذاتية السورية، الأمر الذي صعّب ويصعّب محاولات إزالته (أي محاولات إعادة سوريا إلى نفسها).
ولذلك، فإن الشرط اللازم من "القوى الذاتية" المجتمعية، ومع تحرير سوريا من نظام الأسد، العمل على محاولة تشكيل مؤسسات الحكم واداراتها بأقوى خصوصية متاحة، وبما يسبب إزالة حالة الفصام، ويعيد سوريا إلى نفسها عبر تحكمها بمصيرها.
وهذا يعني بالضرورة، اعتماد المشروع النهضوي الوطني السوري، الذي ينتقل بجهود الأفراد والحركات ذات الرؤى الإصلاحية من مرحلة الفلسفة والتأمل والتأريخ إلى مرحلة العمل، ومن دهاليز التسويف والتأجيل والتعليق والتخفيف، إلى مرحلة المصارحة والعمق والاستحقاق.
ولما كانت الصياغات النهائية لـ"الأسئلة المصيرية" الحاسمة، تتشكل عبر الحركة التاريخية للمجتمع، فإنها تأتي متوافقة مع قانون هذه الحركة ومقتضياته، وبالتالي فإن لحظة "مابعد النظام" البائد التسلطي، تشير من جملة ما تشير، إلى أن سوريا تهيأت لمواجهة نفسها، عبر صياغة أسئلتها الذاتية المكونة لمنطلقات مواجهتها هذه، فلاعودة إلى ذات الممارسات الفاشلة، بحيث لم تعد الدولة هي جهاز مصادر للحريات ولحقوق الإنسان، بل مجال سياسي حيوي، لتنفيذ برامج ومشاريع الفواعل على اختلاف توجهاتها، الممثلة في السلطة، أو المحتمل تمثيلها اللاحق في السلطة.
لا ريب، أن سوريا تخوض في لحظة تاريخية فارقة بكل ما تنطوي عليه الكلمة، من أجل أن تستثمر الفواعل من غير الدولة - عندما تعني هذه الفواعل "المجتمع المدني، الأحزاب، النخب، البيروقراطيات، المثقفين..."، بل وحتى المساجد - للدور الكبير الذي قامت به صلوات الجمعة في كسر الخوف، والتعبئة، ورص الصفوف ، والوقوف على الموقف الواحد - الوعي بقيم حقوق الإنسان والديمقراطية ، كوعي ذاتي جماعي، يأخذ المفهوم المستقل بذاته، ويُدرك بعيداً عن منحة أو منّة الدولة، فضلاً عن السياق الدولي المواتي لدينامية المجتمع السوري عبر بسالة نضاله الثوري، من أجل ترسيخ العمل بالمؤسسات العامة التي لا تقبل التمليك أو التوريث.
تبين الملاحظة التاريخية، تفرد النظام العربي بتجربة سياسية حديثة ومعاصرة ، هي "السلطوية"، ومفادها: أن نظام الحكم الذي جاء في أعقاب "الانقلابات"، و"الاستقلال" عن الدول الاستعمارية، استمر في الحكم ولم يغادره إلا بالموت والانقلاب، واستعصى عن التجاوب مع السياقات الدولية الجديدة التي ترشحه إلى أن يستقر على نظام ديمقراطي، يحترم الحريات والحقوق، ويرسي نظام الدولة الحديثة، المجردة عن شخص الحاكم وحاشيته.
وإذا كانت "السلطوية"، هي خاصية الأنظمة العربية وهي قاسمهم المشترك مع تعدد أنظمتهم السياسية ( تقليدية – جمهورية...)، فإن الاستثناء السوري المتمثل في "السلطوية"، هي أنها نزعة لازمت نموذج الدولة في صورتها القومية البعثية، وتعثّرت منذ البدايات في إيجاد الحل السياسي لمشكلة الحكم.
فعقب انقلاب الأسد الأب عام 1970، فرض النظام حالة الطوارئ ليستمرئ الحالة الاستثنائية، وأبقى عليها ولم يتزحزح إلا بعد أن خرج السوريون عام 2011 إلى الشارع، ليطالبوا برحيل الرئيس (الأسد الابن)، وإزالة النظام الذي حماه لعقود من الزمن السياسي الرديء.
ويمكننا استناداً إلى هذا المفهوم – السلطوية – اكتشاف الكيفية التي كانها المجتمع السوري في حقبة الأسدين (1970 - 2024).
فالسلطة ، نواة صلبة وتزداد صلابة مع الوقت، تحاول أن تسعف نفسها من السقوط ومن مقتضيات الديمقراطية، بمزيد من التسلط بفرض حلقات جديدة إلى جهاز الأمن والجيش والعصابات السياسية والفكرية، فضلاً عن الحرس الجمهوري، والكتائب من المرتزقة، واللفيف الأجنبي من المعاونين العسكريين والأمنيين، ومن رجال الأعمال والمال الفاسد وزبائنية النظام.
حتى صار الوضع السوري ، يتميز بأنه وضع استثنائي، وقد أصبح خارج دائرة التاريخ الحديث والمعاصر، فلم يستطِع أن يصلح نفسه من الداخل، وقد استشرى الفساد، وتهيكل في تلافيف النظام ذاته واستغلق عليه، ودفعه من ثم إلى الانهيار المحتوم على ما شهدناه بالأمس القريب، ليكون بذلك نهاية التاريخ لتجربة سلطوية عنيدة، بلاوجهة ولا مستقبل.