شكّلت الحرب الأهلية التي انفجرت في 13 نيسان 1975 محطّة مفصلية في التأسيس للانحدار الذي نعيشه اليوم. فأسّست الحرب لنظام التحاصص الذي كُرِّسَ باتفاق الطائف الموقّع في العام 1989. فهذا الاتفاق الذي سُمّي بوثيقة الوفاق الوطني، أبقى على مكاسب الميليشيات التي سيطرت على الشارع، إذ مع الانتقال من حالة الاقتتال والفوضى إلى حالة الاستقرار وبناء الدولة، بقيت تلك المكاسب بعهدة النافذين وشركائهم ومَن يدور في فلكهم، ومن تلك المكاسب، المساحات العامة على طول الشاطىء من الشمال إلى الجنوب.
وعوضَ معالجة وضع اليد على الأملاك العامة، لا سيّما البحرية، أخذت الحكومات المتعاقبة منذ بداية التسعينيات حتى اليوم، بتشريع الاعتداءات أو غضّ النظر عنها. على أنّ المفارقة الكبرى، تمثَّلَت بالقرار الجريء لحكومة نواف سلام، عبر اتخاذها قرار استرداد ثلاثة مراسيم كانت أصدرتها حكومة تصريف الأعمال التي ترأسها الرئيس السابق نجيب ميقاتي، وتتعلّق بتشريع إشغال عشرات الآلاف من الأمتار على الشاطىء، في مناطق رأس مسقا – البحصاص، ذوق بحنين – عكار والقْلَيلة – صور. ولقرار الاسترداد انعكاسات إيجابية تعود بالنفع على الدولة، لكنه ليس كافياً في حال لم يُستَكمَل بخطوات أكثر جدية، تعيد للدولة حقوقها في السيادة والاقتصاد وتساهم في إقفال أحد أبرز ملفّات الحرب.رفض تشريع الاعتداءشرَّعَت حكومة ميقاتي الاعتداء على الأملاك العامة من خلال المرسوم رقم 14331 الذي يمنح منتجع "بالما" السياحي في منطقة رأس مسقا في البحصاص، 76140 متراً مربّعاً من الأملاك العامة البحرية. وكذلك عبر المرسوم رقم 14379 الذي يجيز لأفراد من آل دبّوسي في منطقة ذوق بحنين في عكار، إشغال 53000 متر مربع، بغرض إنشاء ميناء. وأيضاً من خلال المرسوم رقم 14620 الذي يمنح إحدى الشركات التي لم تعد قائمة، 14560 متراً مربعاً في منطقة القْلَيلة في صور، من دون تحديد وجهة استعمال تلك المساحة الموجودة في منطقة زراعية.
وبفعل الاعتراضات التي رافقت إصدار تلك المراسيم، ووجود شبهات باستعمال تلك المساحات العامة بشكل مريب ويحوّلها لأملاك خاصة، خلافاً للقانون 64/2017 الذي يجيز إجراء تسويات على الأملاك المعتدى عليها قبل العام 1994، قرّرت حكومة سلام استرداد تلك المراسيم. الأمر الذي يفتح النقاش القانوني والاقتصادي لهذا الملف، مع تساؤلات حول الخطوات المستقبلية المتعلّقة بملفّ الأملاك العامة.من الناحية القانونية، يعني استرداد المراسيم "أنّها لم تعد موجودة، وأيّ عَمَل في تلك الأماكن المحدّدة، بات عملاً مخالفاً للقانون واعتداءً على الأملاك العامة"، وفق ما يؤكّده لـ"المدن"، المحامي نزار صاغية الذي يطمئن إلى أنّه "بعد ثبوت المخالفات، خصوصاً في المساحات التي يشغلها منتجع بالما، لا يمكن إعادة إصدار مراسيم جديدة (تتيح إشغال المساحات)". ويستند صاغية إلى أنّ المخالفات موضوع النقاش في تلك الأماكن "هي أسباب قانونية جوهرية تمنع إصدار مراسيم إشغال".قرار الاسترداد "هو قرار صحيح، لكنه خطوة أولى نحو وقف المخالفات وحماية الأملاك العامة البحرية، وهو الجرح الذي ينزف منذ الحرب الأهلية، ولذلك، مع اقتراب ذكرى الحرب الأهلية، قد يكون هذا الملف بادرة لفتح ملف الأملاك البحرية، لكن لا نستطيع استباق الأمور. وفي جميع الأحوال، فإن قرار الحكومة هو تصحيح لخطأ فادح تمّ ارتكابه".ولمزيد من الإيجابية في هذا الملفّ، يركن صاغية إلى "المسوحات التي بدأها الجيش اللبناني لكامل الشاطىء، وهي عملية توقّفت في الجنوب بسبب الحرب، لكن يجب أن تُستَكمَل. وعند انتهاء المسوحات، يمكن تحديد المساحات الفعلية المعتدى عليها، والنظر في ما يمكن استرداده أو تسوية أوضاعه".انعكاسات اقتصاديةفي مقابل إعادة الاعتبار للقانون، يمثّل استرداد المراسيم خطوة يمكن البناء عليها لتحقيق إفادة اقتصادية. فبرأي صاغية، إنّ "حماية الدولة لأملاكها البحرية، يعني فتح المجال لإقامة مشاريع اقتصادية قرب البحر، فالفائدة الاقتصادية لا تعني فقط تأجير البحر، وإنما حماية المجال المحيط به أيضاً، فالمواطنون أيضاً سيستفيدون من حماية البحر، وبالتالي، يصبح البحر فرصة اقتصادية وليس سلعة".
بالتوازي، يعتبر عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، صادق علوية، أنّه "في ظلّ العجز المالي للدولة، يجب أن يشكِّل ملفّ الأملاك العامة البحرية مورداً مهماً لخزينة الدولة". ولذلك، يقول علوية لـ"المدن"، إنّ استرداد المراسيم الثلاثة "يجب أن يُستَكمَل بـ"بسط الدولة سيادتها على أملاكها البحرية الأخرى، المعتدى عليها من قِبَل شاغليها. وكما تعمل الدولة على بسط سيطرتها على أرضها في الجنوب، يجب أن تبسط سيطرتها على أملاكها العامة البحرية والنهرية، وأن تتابع هذا الملف بإعلان شفّاف حول إشغال الاملاك وفق الأصول القانونية".ويلفت علوية النظر إلى أنّ التصحيح الحالي للخطأ، يجب أن يضاف إليه: "تصحيح الخطأ المتمثّل بالرسوم المجحفة لإشغال الأملاك العامة، وبالتالي، على الحكومة أيضاً استرداد المرسوم المتعلّق بخفض رسوم إشغال الأملاك البحرية التي تعتمد تسعير قيمة المساحات وفق 60 ألف ليرة للدولار الواحد".الانعكاسات الإيجابية لاسترداد الدولة حقوقها في مساحاتها العامة، أمر لا جدال فيه. لكن يبقى السؤال، هل ستقرّر حكومة سلام دخول دهاليز الحرب الأهلية من باب الأملاك البحرية؟ لا سيّما وأنّ أغلب شاغلي تلك الأملاك هم من النافذين سياسياً. وفي هذا السياق، تشير معلومات لـ"المدن" إلى أنّ قرار الاسترداد ليس حدثاً عابراً، فالقرار له دلالات كبيرة لأنّ الأشخاص شاغلي تلك المساحات لهم ارتباطات سياسية واضحة. وتهريب المراسيم (في الحكومة الماضية) هو فعل فساد وهدر لأموال طائلة". وعلى سبيل المثال، فإنّ الترخيص لعقار بحنين مثلاً "يسمح لصاحب العقار بردم 53 ألف متر مربّع من البحر، وإذا حسبنا معدّل سعر المتر على الواجهة البحرية بما لا يقل عن 300 دولار للمتر الواحد، يعني أن حكومة ميقاتي سمحت لصاحب العقار باستملاك عقار بقيمة 16 مليون دولار. وهذا عقار واحد فقط". وإلى جانب القيمة المادية أضرار بيئية وصحية على المنطقة.