مرت أربعة أشهر على سقوط نظام بشار الأسد، وسيطرة الفصائل العسكرية بقيادة "هيئة تحرير الشام" على السلطة في العاصمة، وعدة مدن سورية أخرى، ولم تتمكن من استعادة أجزاء مهمة من التراب السوري، في الشرق والجنوب، في محافظات الجزيرة (الرقة، دير الزور، الحسكة) ودرعا والسويداء. وتبين خلال الحقبة الماضية أن هذه المهمة ليست سهلة، بل هي معقدة، وذات كلفة مختلفة من مكان لآخر.أربعة أشهر ليست مهلة كافية للحكم على أداء القيادة السورية الجديدة، التي تولت السلطة استنادا إلى مقولتي "الشرعية الثورية"، و"من يحرر يقرر"، وظل التريث سيد الموقف إلى حين إعلان تشكيلة الحكومة السورية في نهاية الشهر الماضي. ومن هذا التاريخ وصاعدا بات الباب مفتوحا أمام الذين صمتوا طيلة المدّة الماضية، كي يمنحوا للسلطة فرصة كافية كي ترتب وضعها، وتعلن عن خططها وتوجهاتها.صار واضحا شكل نظام الحكم خلال المرحلة الانتقالية، التي يبدو أن الرأي استقر على أن تكون مدتها خمسة أعوام، وتكفي قراءة سيرة وزراء الحكومة، لتشكيل صورة شبه وافيه حول الطريقة التي ستدار بها سوريا، حتى نهاية المرحلة الانتقالية على الأقل، وربما لبعدها، طالما أن الذي يقرر هو، الطرف الذي يمتلك القوة العسكرية على الأرض.تشكيل الحكومة هو الخطوة الأولى نحو تفعيل الدولة، التي تعطلت بسقوط النظام، وكانت مدّة الشهور الأربعة الماضية بمثابة تصريف أعمال، ومحاولة لبناء جسر نحو المرحلة الانتقالية، التي من المقرر أن تشهد إعادة بناء مؤسسات الدولة، التي بقيت لما يزيد عن نصف قرن دولة عائلة الأسد، بمواصفات سياسية وأمنية واقتصادية، تضمن للعائلة الحكم إلى الأبد. والأمر المنشود اليوم هو، أن يتم تأسيس الدولة من جديد، على غير الأسس والوظائف والعلاقات بين الحاكمين، في زمن عائلة الأسد، وعلى نحو خاص جهاز الحكومة، وأنظمة عمل السلطات الإدارية والتنفيذية والقانونية.تواجه هذه المهمة ثلاثة تحديات رئيسية. الأول هو السيادة، أن تكون سيادة القانون، وليس سيادة الحكام، وتصبح الدولة صاحبة الحق الحصري في ممارسة السلطة على الأرض والسكان داخل حدود ترابية، ويتجلى ذلك في حقها الحصري في التشريع واحتكار الممارسة الشرعية للعنف. ومن يمارس ذلك مؤسسات ليس من طرف واحد، بل على أساس العلاقة بين الحاكمين والمحكومين. ولا يقتصر الأمر على سيادة القانون فقط، بل يتعداه إلى استقلال الدولة نحو الخارج، أي عدم وجود سلطة أخرى غيرها فوق الإقليم الترابي، بالإضافة إلى التكامل الترابي وتحقيق عملية التجانس الثقافي بين السكان، وردع العدوان الخارجي، وفي حال بلادنا تشكل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وعمليات قضم الأراضي، أبرز التحديات، وما لم تتمكن السلطة من ردع العدوان، فإن مشروع إعادة الدولة مهدد، أو انها سوف تكون دولة ضعيفة فاشلة.التحدي الثاني هو المواطنة، التي هي رديف الحرية، وهذا يتطلب المساواة التي تقوم على فصل السلطات، ولا سيما سلطة القضاء، والفصل بين الدين والدولة، ومشاركة المواطنين في الشأن العام. وكي لا يبدو الأمر نظريا، فإن الأحداث الطائفية التي شهدها الساحل السوري قبل شهر تصلح لأن تكون درسا حقيقيا، لأنها كانت امتحانا فعليا لمسؤولية الدولة تجاه مواطنيها، ليس فقط تأمين الحماية الجسدية لأرواح الأهالي وممتلكاتهم، وإنما للسلم الأهلي، بوصفه أساس التعايش بين المكونات المختلفة. فالمصلحة العامة في نهاية المطاف هي مجموع المصالح الخاصة. كما أن المواطنة تعني العضوية في الدولة، وليس في طائفة، أو جماعة دينية أو مناطقية، وهذا يتطلب المساواة في جميع الحقوق، السياسية والمدنية والاجتماعية، وعلى مر التاريخ لم تستحق الكيانات تسمية دول، إلا حينما جمعت بين الحاكمين والمحكومين، والمواطنون محكومون بوصفهم رعايا في دولة هم أعضاء فيها، وليسوا رعايا حاكم.والتحدي الثالث هو، الفصل بين نظام الحكم، وبين الدولة التي تتشكل من مجموعة من المؤسسات، تعمل على تنظيم العلاقة بين السلطة والمجتمع. وبغض النظر عن طبيعة نظام الحكم سواء كان جمهوريا أم ملكيا، اشتراكيا أو رأسماليا، فالدولة كيان جامع بين مؤسسات الحكم والمواطنين، لا تختلف ولا تتأثر بذلك، وهذا أمر معمول به من خلال جملة من الثوابت في الدول الحديثة كافة، الجمهورية مثل فرنسا، والملكية مثل بريطانيا. وحينما يحصل تغيير وزاري في بلد من هذه البلدان، فإن الذين يغادرون هم الوزراء، وليس الحكومة، وهذا يتطلب في الحالة السورية مغادرة منطق من "يحرر يقرر"، الذي قد يصلح لفترة قصيرة، تفرضها ظروف عاجلة، وهذا يتطلب الفصل بين شرعية نظام الحكم، وشرعية الدولة، التي تقوم على بناء جهاز حكم ومؤسسات، تعمل بموجب أنظمة وقوانين، وهذا الذي يضمن استمرارية الدولة، على الرغم من تغيير الأنظمة السياسية، ما يفرض على السلطات السورية إعادة بعض أجهزة الدولة القديمة إلى العمل، ولا سيما ذات الطابع التقني كالشرطة، التي تحافظ على الأمن العام.