لا عجب أن المسلسل الرمضاني "لام شمسية" الذي عالج مسألة الانتهاك الجنسي للأطفال ونال جماهيرية واسعة أثناء عرضه، اختتم حلقته الأخيرة بأغنية وطنية هي "تسلمي يا مصر". لطالما كانت الدراما التلفزيونية، وبالأخص الرمضانية، مدونة الوطنية المصرية، بشكل مباشر أو غير مباشر. بل وعلى نطاق أوسع، تمدّد تأثير تلك الدراما، مثلها مثل السينما والأغنية الإذاعية، إلى النطاق العربي الأرحب، خالقاً رابطة فوق وطنية بين الناطقين بالعربية ومعها مركزية مصرية خفت وهجها مع الوقت. وعلى هذا المنوال حظي "لام شمسية" باحتفاء وبكثير من النقاش العابر للحدود. مسلسلات "الشؤون المعنوية" التي توالت في السنوات الماضية، كانت الأمثلة الأكثر فجاجة على تضمين رسائل السلطة داخل الأعمال التلفزيونية، وذلك مقارنة بالأعمال الأقدم والأخفض صوتاً، مثل "رأفت الهجان" و"ليالي الحلمية". وهذا العام تحديداً، علّق الرئيس نفسه على الدراما الرمضانية، داعياً إلى مراجعة الإنتاج التلفزيوني، في إعادة لخطاب أخلاقي مكرّر بشأن علاقة الفن بصورة المجتمع والعكس، أي تأثير الفني في المشاهدين. كان المنظّر الأميركي الماركسي، فريدريك جيسمون، قد صك مصطلح "الرمزية الوطنية" ليصف آداب العالم الثالث في مرحلة ما بعد الاستقلال مباشرة. هذا الوصف أصبح اليوم محلاً للخلاف، لكنه مازال صالحاً للتطبيق في سياقات بعينها. بحسب جيسمون، تميز الأدب الناشئ للدول المستقلة حديثا بتقديم أمثولة وطنية، أي أنه لا قصة في حد ذاتها، فكل قصة تحيل بشكل أو بآخر إلى الأمة، أو يمكن تأويلها على هذا المقياس. وما يسري على الآداب المكتوبة قد يسري على الدراما التلفزيونية، وهي النسخة المرئية والأكثر شعبية من الآداب الوطنية. والحال أن هذه الأمة، كما يعنيها جيمسون، ليست كياناً جوهرانياً، بل هي رمزية في حد ذاتها، أو بمعنى آخر هي حشد من الرمزيات.
يدخل "لام شمسية" إلى مناطق غير مطروقة في الشاشات العربية وعلى خلفية من إنكار مجتمعي، وبذلك يخرق مُحرَّماً من طبقتين، فنية ومجتمعية معاً. طريقة المعالجة التي تحمل حساً توعوياً لا تفسد جمالياتها بالضرورة إذ تتجاوز الصيغة الفردية، حيث المعتدي على الأطفال ليس مجرد شخص مضطرب نفسياً أو مُجرم، بل تكون أفعاله ممكنه فقط داخل سياق اجتماعي من الكتمان. لكن، وبقدر ما يُحسب ذلك للمسلسل، فإنه يعرض صنّاعه للخطر. فذلك المجتمع هو الأمة بالضرورة، أو اسم آخر لها. في كتابه "اشتهاء العرب"، قدم جوزيف مسعد نسخة ما بعد استعمارية متأخرة من أطروحة "الرمزية الوطنية"، حيث لا تمثل المثلية في الآداب العربية مجرد ميل جنسي، بل هي أمثولة عن الفساد الأخلاقي للأمة وتحللها. العلاقة بين رمزيات الجنس والسردية الوطنية بعد الاستقلال لا تحتاج للكثير من التدليل، فباكورة روايات الأدب ما بعد الاستعماري العربي، وظفت الجنس والعنف الجنسي بصُوره، كاستعارات عن انتقام المستعمرين أو الخيانة الوطنية. ولاحقاً، في السينما كما في الأدب، ثمة أمثلة كثيرة لتمثيل النكسة برمزيات العجز الجنسي والاغتصاب. بصورة ما، كل ما هو جنسي يشير إلى الأمة أو يخصها. بالطبع تجاوزات الآداب العربية وفنونها تلك الرمزيات الكسولة والذكورية. لكن صنّاع "لام شمسية"، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، بدوا مدركين لأطروحة "الرمزية الوطنية" ومخاطرة المرور تحت ظلها الجنسي. وبفعل الرقابة الذاتية، تنقلب الإمكانات النقدية والكاشفة في الأحداث، إلى نقيضها. حلقة بعد أخرى، نجد أنفسنا أمام سايكو-دراما بوليسية تعيد التوازن إلى العالم، عبرالتدخل شبه السحري لمؤسسات الدولة الأمنية والقضائية، وبالاتكاء إلى قيم طبقة وسطى عليا صاعدة، حيث تقدم عيادة الطبيب النفسي جبراً للضرر. هكذا يُستأصل الفساد الجنسي من طرفي المعتدي والمعتدَى عليه، وتعود الأمة إلى نقائها على إيقاع نشيد وطني لا تتيح مباشرته أي مساحة للرمزيات.