يدهشك هذا الرجل كلما جاء ذكره، وما أكثر ما نتذكره. ثمانية وأربعون عاماً مضت على رحيله في الثلاثين من آذار/مارس 1977 وما زال هو الأبرز في ذاكرة المواطن العربي والأقرب إلى الوجدان الجمعي غناءً وتمثيلاً وتجربة إنسانية مثيرة، كل ما فيها يدعو إلى الاهتمام والتأمل، وهو ما يؤكده تصدره لمحركات البحث ولهفة الملايين على متابعة كل ما يخصه مكتوباً أو مسموعاً أو مرئياً. هذه الظاهرة الحليمية المتفردة والاستثنائية تدفع الكثيرين، مع مرور السنوات على رحيله، إلى طرح السؤال الكبير: ما سر هذا الرجل؟ كيف استمر هذا الحضور اللافت حتى لدى أجيال لم تعش زمانه أو ترتبط به؟كثيرون غيره تمتعوا بالموهبة وبراعة الأداء، بل إن بعضهم فاقه في قوة الصوت ومساحته، وكثيرون مثله كان لهم حضورهم في الساحة في زمن العمالقة الكبار أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش. نعم لم يكن الأقوى، لكنه كان الأقرب إلى الوجدان الجمعي في عصر الالتفاف حول الرمز والمشروع العام. نعم لم يكن صاحب المساحة الصوتية الأكثر اتساعاً، لكنه كان أصدق من تغنى بالعربية في زمانه وأي زمان. نعم لم يكن قديساً بلا أخطاء كما أراد أن يصوره البعض، لكنه كان الأذكى والأقدر على امتصاص الصدمات ومواجهة الأعاصير. هل هذا يكفي؟ أو بعبارة أخرى، هل كان هذا كافياً لخلود عبد الحليم وحضوره على ذلك النحو الذي يستوقفنا جميعاً؟ لا أظنّ. لقد توافر للعندليب ما لم يتوافر لغيره من أسباب مجتمعة كانت وراء هذه الحالة الاستثنائية:
أولاً: لا خلاف على موهبة عبد الحليم الغنائية وقدرة صوته على التعبير الصادق عن أدق المشاعر الإنسانية، وهذه الموهبة هي أساس كل مجد صنعه عبد الحليم. فلولاها ما استطاع أن يوفر بقية الأسباب الأخرى التي دعمت أركان دولته الفنيّة في حياته وبعد مماته.ثانياً: ظهر عبد الحليم في زمن كانت فيه الأذن العربية بحاجة إلى النقلة الثانية، بعد تلك الأولى التي أحدثها الموسيقار سيد درويش وعمل في ظلها سابقوه عبد الوهاب وفريد الأطرش وإبراهيم حمودة ومحمد فوزي وغيرهم، لا سيما مع تغيّر الأمزجة وعادات الاستماع والسلوكيات الاجتماعية وإيقاع الحياة بوجه عام فى أعقاب ثورة 23 يوليو 1952 والتغيرات التي أحدثتها. وقد صنعت لعبد الحليم هذه النقلة الثانية، مجموعة من الأسماء أبرزها على مستوى الألحان كل من كمال الطويل ومحمد الموجي ومنير مراد ثم بليغ حمدي، ومعهم المتطور والمتكيف مع كل جديد محمد عبد الوهاب. وعلى مستوى الكلمة، كان هناك سمير محبوب ومحمد علي أحمد واسماعيل الحبروك ومرسي جميل عزيز ومعهم "الحرفجي" حسين السيد. فإذا ما امتص حليم صدمة اللقاء الأول مع الجمهور، وجد الأذن العربية مهيأة لتقبل اللون الغنائي الذي يقدمه، ثم استطاع بحسن إدارته لموهبته الغنائية أن يحافظ على هذا الجمهور الذي بات معظمه وفياً لذلك اللون حتى بعد رحيل عبد الحليم، وداعماً له، بما في ذلك أجيال لم تعاصره.ثالثاً: الأمر نفسه حدث في السينما، حيث ارتبطت الأفلام التي قدمها الممثل عبد الحليم حافظ بوجدان المتلقي وبذكرياته، وعبّرت عن مواقف عاطفية إنسانية صالحة للاستعادة في كل زمان ومكان، ولذلك بقيت كل هذه السنوات بعد رحيله.
رابعاً: استفاد حليم من هذه المواقف الإنسانية التي وفرتها له قصص أفلامه في إعمال ذكائه لاختيار أفكار أغنياته، بحيث يندر أن تجد حالة شعورية لم يعبّر عنها عبد الحليم بالغناء، فتجد له أغنيات في النجاح وأعياد الميلاد ورحلات المصايف ونزهات المحبين وكل مراحل الحبّ من لهفة لقاء ولوعة فراق وغدر وخيانة وعتاب وألم وعذاب. ومن هنا، فإن أغنيات العندليب حاضرة دائماً في كل مناسباتنا، مهما اختلفت حالاتنا المزاجية، ومعها يحضر اسم صاحبها الذي غناها.خامساً: وعلى مستوى الغناء الوطني، عبّر العندليب عن كل الأحداث الوطنية التي مرّت بها مصر والأمة العربية واستطاع بذكائه أن يبيعنا فكرة قربه من الرئيس عبد الناصر وأنه كان يعتبره بمثابة الوالد، بينما أكد كل المقربين من الرجلين أن عبد الناصر كان يفضل أم كلثوم وفريد على عبد الحليم، حتى وإن استفاد من صوت العندليب ليكون "جبرتي الثورة". من هنا أصبحت حياته الفنيّة والشخصية أيضاً تاريخاً موازياً لتاريخ مصر المعاصر ووطنه العربي الكبير، يمكن استرجاعها عند كل واقعة تاريخية مرت بها الأمة. فالرجل المولود في 21 يونيو 1929 – بحسب ما هو شائع - كان ميلاده متزامناً تقريباً مع نشأة جماعة الأخوان المسلمين، هذه الجماعة التي شكلت الجانب السفلي من تاريخ مصر المعاصر وحتى الآن. وحينما أتى الفتى اليتيم إلى زحام القاهرة لدراسة الموسيقى في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين، كان الوطن يعيش أكثر سنوات غليانه السياسي بحسب وصف الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه الشهير "مذكرات في السياسة المصرية". وحينما قامت ثورة 1952 كان المطرب الشاب يبحث عن بصيص ضوء في الجدار الصلب من الإرث الموسيقي العتيق، وحينما أُلغيت الملَكية وأعلنت الجمهورية في 18 يونيو 1953، كان عبد الحليم في اللحظة ذاتها والحفلة عينها يشدو بـ"صافيني مرة"، أولى أغنياته للناس في حفلة عامة. فكان ميلاده الفني مقترناً بميلاد الجمهورية في مصر، ومن تلك الليلة أصبح الشاب البسيط صوتاً للثورة في كل أحلامها وإنجازاتها مثلما كان صوتها في إحباطاتها وانكساراتها. هو الذي غنى للتأميم والاشتراكية ومبادئ يوليو، وللسدّ العالي وللعائدين من اليمن ولثورة الجزائر وللزهو القومي، وهو أيضاً الذي غنى مع هزيمة 1967 للنهار الذي عجز عن دفع مهر تلك التي على الترعة تغسل شعرها. وهو نفسه الذي غنى في تشرين الأول 1973 للصبية التي كان مهرها النصر والعريس ابن البلد. ثم، هو الذي رحل في آذار 1977 بعد أسابيع قليلة من أهم انتفاضة شعبية عرفتها مصر في 18-19 كانون الثاني/يناير من العام ذاته.
سادساً: لحظة الرحيل نفسها. لن تنسى الذاكرة المصرية والعربية هذا الوداع الجنائزي المهيب باحتشاد جماهيري نادر التكرار، ومشاهد انتحار ما زالت عالقة في الأذهان. فالجماهير التي احتشدت من ميدان التحرير وسط القاهرة، وحتى مثواه الأخير في مقابر البساتين جنوبي العاصمة المصرية، لم تكن تودع جثمان عبد الحليم بقدر ما كانت في وداع عصر بأكمله كان العندليب عنوانه الأبرز. وانتحار الفتاة التي ألقت بنفسها من الشرفة حزناً عليه، كان بمثابة انتحار زمن الرومانسية على أعتاب مقبرة العندليب، حسبما قدّمه المخرج داوود عبد السيد في فيلمه المعروف "زوجة رجل مهم" العام 1987. هكذا، بات التأريخ لنهاية عصر الرومانسية مرتبطاً باسم عبد الحليم، تماماً مثلما كان رحيله على المستوى الفني إيذاناً بقرب نهاية الأغنية الطويلة، ومن ثم أفول نجم الحفلات العامة، حيث يقف المطرب ليغني بالساعات لجمهور يستمع بإنصات وهو جالس في مكانه، قبل أن يهل زمن الأغنية الإيقاعية السريعة والاستماع بالخصر بحسب وصف الموسيقار عبد الوهاب.سابعاً: يمكن القول أن عبد الحليم، خلافاً لمعاصريه من المطربين مجايليه، كان صوتاً مثقفاً، حتى لو كانت ثقافته سمعية، بفضل اقترابه من أرباب الفكر والأدب والصحافة، أمثال كامل الشناوي وإحسان عبد القدوس ومصطفى أمين وأحمد بهاء الدين وفتحي غانم. فإذا ما احتشد وعيه الثقافي مع ذكائه الفطري أصبح هذا الشاب النحيل قادراً على إدارة موهبته والحفاظ على مكتسباته، لا سيما في ظل شبكة العلاقات العامة التي كونها من كبار الصحافيين والإذاعيين الذين شكلوا له سداً منيعاً ضد من يحاولون تقويض دولته الفنيّة. فعاشت هذه الدولة حتى بعد رحيل زعيمها، ببقاء أعضاء هذه الشبكة الفولاذية التي كونها عبد الحليم.
ثامناً: استطاع العندليب بذكائه أن يبقي حياته على تماس مع نجوم عصره في الفن والأدب والسياسة والصحافة والرياضة والدين والمجتمع، بحيث أصبح صفحة مهمة في سِيَر حياة هؤلاء، يتم استدعاؤها عند الحديث عنهم. فطالن بالتالي، عُمر سيرته.تاسعاً: يمكن القول بكل ارتياح، وبعد كل هذا العمر الذي قضيته في التأريخ للحياة الفنية، أن عبد الحليم كان الفنان المصري، وربما العالمي، الأكثر اهتماماً بالصورة الفوتوغرافية، وهذا الكم الكبير والمتنوع من الصور كان أحد الأسباب التي دعمت الحديث الدائم عنه حتى بعد رحيله، خصوصاً في الصحافة التي ظلّت تفرد له أعداداً كاملة من إصداراتها كل عام في ذكرى ميلاده ورحيله على السواء.عاشراً: لا يمكن إغفال الدور المهم لصديق عمره مجدي العمروسي، ومدير شركة صوت الفن التي كان حليم شريكاً فيها – حتى لو تداخلت فيه المصالح التجارية – في الإبقاء على سيرة عبد الحليم حية طازجة. فقد دأب العمروسي كل عام، وحتى رحيله، على مفاجأة جمهور حليم بما هو جديد، يثير الجدل ويجدد الاهتمام بسيرته فنياً وإنسانياً.باختصار... لقد اجتمعت لدى عبد الحليم، دون غيره، كل أسباب الحضور الدائم في الذاكرة العربية، وأظنه سيبقى لأجيال وأجيال مقبلة.