بين وصفها ببوابة لتنظيم العمل السياسي، وبين من رأى فيها مقدمة لمصادرة الرأي وتحجيم الحريات السياسية ووضعها ضمن إطار تحرك ترعاه السلطة، خلق قرار وزارة الخارجية السورية بتشكيل "الأمانة العامة للشؤون السياسية"، جدلاً قديماً جداً، يتجدد اليوم على بعد أشهر قليلة جداً من ثورة، قامت أساساً على مبدأ الحرية.
ووصفت وزارة الخارجية السورية "الأمانة العامة للشؤون السياسية"، بأنها بوابة لتنظيم العمل السياسي، وتمهيد لمرحلة سياسية جديدة، بعد توقيع الإعلان الدستوري، وإعلان تشكيل الحكومة السورية الانتقالية.صلاحيات "الأمانة"
وجاء القرار رقم 53 الصادر عن وزير الخارجية والمغتربين، أسعد الشيباني، في 27 آذار/مارس الماضي، بإنشاء كيان جديد ضمن هيكلية الوزارة، بهدف "تعزيز الكفاءة السياسية وتنظيم العمل الرسمي في المرحلة المقبلة"، وفقاً لما ورد في نص القرار.
وحدد القرار المهام الأساسية للأمانة الجديدة، وتشمل الإشراف على النشاطات السياسية الداخلية، والمشاركة في صياغة السياسات العامة، بالإضافة إلى إدارة أصول حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية المنحلة، وتوظيفها لخدمة الأهداف الوطنية. كما منح القرار الأمانة موازنة مالية مستقلة ضمن موازنة الوزارة، مع خضوعها للرقابة المقررة.مخاوف قديمة تتجدد
بالمقابل، سادت بين أوساط الناشطين والحقوقيين ردود فعل سلبيةً تجاه القرار، كونه ينطوي على مخالفات قانونية ودستورية، واعتبرته بوابة لمصادرة الحياة السياسية في سوريا وتجاوزاً لحدود المشروعية التي يفترض أن يتقيد بها الوزير، وذلك وفقا للصلاحيات الممنوحة وفق المرسوم رقم 20 لعام 2016، الذي حدد اختصاصات ومهام الوزير واختصاصات ومهام الوزارة.
ويعتبر الحقوقي عبد الرحمن الشيخ علي، أن الوزارة هذا القرار يندرج ضمن مساعي الحكومة السورية لإعادة تنظيم الحياة السياسية، وإنهاء الفوضى السياسية وتنظيم النشاطات الحزبية ضمن إطار قانوني.
ورغم اعتراضه على المخالفات القانونية المحيطة بشكل القرار وصلاحيات لوزارة الخارجية، قال الشيخ علي لـ"المدن"، إن المرحلة الانتقالية تحتاج لهيئة تتولى رسم السياسات بما يساهم في إدارة المرحلة الانتقالية في سوريا، إضافة لتفكيك هيمنة حزب البعث، وإعادة توظيف أصول الأحزاب القديمة ما يحد من استمرار نفوذ البعث في أجهزة الدولة"، معتبراً أن الحياة السياسية في سوريا كانت قائمة على حزب البعث كقائد للدولة والمجتمع، رغم إلغاء المادة الثامنة من الدستور بعد الثورة، لكن السيطرة هذه بقيت متجسد إل انتخابات مجلس الشعب الأخيرة عام 2024، حيث بلغت نسبة أعضاء حزب الرئيس السوري المخلوع، 68% من إجمالي الفائزين بالانتخابات.
وأثار قرار وزارة الخارجية مخاوف جدية من تحول "الأمانة العامة للشؤون السياسية"، إلى جهاز أمني يقيد حرية العمل السياسي، في وقت تشهد فيه سوريا مرحلة حرجة على الصعيد السياسي في المقام الأول.
ويقول الباحث أيمن أبو هاشم لـ "المدن"، إن القرار 53 الصادر عن وزير الخارجية السوري، يمثل تقييداً لحرية العمل السياسي الذي كفله الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 13 آذار /مارس الجاري. وتنص المادة 13 من الإعلان الدستوري على أن "تكفل الدولة حرية الرأي والتعبير والإعلام والنشر والصحافة"، وكذلك تنص المادة 14 منه على أن "تصون الدولة حق المشاركة السياسية وتشكيل الأحزاب على أسس وطنية وفقا لقانون جديد، وتضمن الدولة عمل الجمعيات والنقابات"، وبالتالي فإن قرار تشكيل "الأمانة العامة" مخالف فعلياً للإعلان الدستوري ومواده التي كفلت حرية التعبير، والحياة السياسية والأحزاب والنقابات.
ويضيف أبو هاشم أن تشكيل الأمانة العامة في حال ضرورته، يجب أن يكون مرتبطاً بقانون الأحزاب أولاً، ومرتبط بوزارات أخرى كوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، باعتباره شأن داخلي ليس ذا صلة بمهام وصلاحيات وزارة الخارجية.
وفيما لم تتضح بعد المدة التي سيصدر فيها قانون الأحزاب وأبرز مواده، منحت وزارة الخارجية، "الأمانة العامة للشؤون السياسية"، اختصاصات واسعة تخولها الإشراف على عمل الهيئات والنشاطات السياسية، وتلغي التوجه نحو التشاركية السياسية، في مرحلة تفترض العمل على تأكيد هذه المشاركة وتعزيزها ودعمها.
ويؤكد أبو هاشم أن "عدم تحديد القرار حتى لطبيعة تخصص الأمانة العامة، يمنحها سلطات تقديرية واسعة لممارسة دور رقابي على العمل السياسي، وهذا ليس من حقها. فالمطلوب تعزيز إنشاء الأحزاب السياسية في سوريا". ويقول: "يثفهم من تشكيل الأمانة، النزعة نحو تشكيل حزب السلطة، الذي يسيطر على كل مقاليد العمل السياسي، ويضبط إيقاعه وفقاً لتوجهات ورغبات المسؤولين وأصحاب القرار السياسي".رسائل سلبية
ومع احتفاظ الشيباني بحقيبة وزارة الخارجية في الحكومة الجديدة، اعتبر ناشطون أن هذا القرار يحمل رسائل سلبية، خصوصاً للمهتمين والمنخرطين بالشأن السياسي، ويحمل في طياته "صلاحية" التقييد والتشدد ضد حرية العمل السياسي ويخالف حرية الرأي والتعبير.
وتقول الناشطة النسوية ومديرة منظمة "عدل وتمكين" هبة عز الدين، لـ "المدن": "أصبح لوزارة الخارجية الآن دور المشرف على جميع الأنشطة السياسية، ومراقبة وتحريك السياسة داخل البلاد، وهذا يعني تقييداً لأي حراك سياسي مستقبلي في سوريا، وتشديداً أكتر على أي حراك لا يتماشى مع توجهات السلطة الحاكمة، وهذا يعيدنا 50 عاماً إلى الوراء عندما أعطى قانون الطوارئ للسلطات الحق بالتدخل بأي نشاط سياسي أو اجتماعي تحت مبرر (حماية الأمن القومي)، هذا ما قيّد الحريات السياسية بشكل كبير". ولا تغفل "دور الأجهزة الأمنية، كالأمن السياسي والمخابرات، بمراقبة النشاطات السياسية والحزبية، وهو ما قضى، بالمحصلة، على أي حراك سياسي خارج الأطر الرسمية، وأخضعه لعقوبات ضمن قانون العقوبات السوري".
وتضيف عز الدين أن "إعادة توظيف أصول حزب البعث والأحزاب القومية، يعني وجود نية لدى الحكومة لإعادة هيكلة نفوذ هذه الأحزاب بطريقة جديدة، وهذا سيؤثر حتماً على التوازنات السياسية مستقبلاً".
ويأتي هذا القرار بعد أشهر فقط من إعلان "مؤتمر النصر"، في 30 كانون الثاني/يناير 2025، وحل حزب البعث وأحزاب الجبهة، مع تحذير صريح من إعادة تشكيلها بأي صورة، وإعلان الناطق باسم إدارة العمليات العسكرية، أن جميع ممتلكات تلك الأحزاب أصبحت ملكاً للدولة، وتمثل "إرث النظام السابق".