لم يكن الاحتلال الإسرائيلي بحاجة إلى وقت طويل كي يُدرك أن عودة الأهالي إلى قراهم كانت أسرع مما تخيّل. لم يكن يتوقع أن يعودوا بهذه السرعة، وكأنهم لم يغادروا أبدًا.
منذ وقف إطلاق النار، تسارعت عودة السكان رغم بيوتهم المدمرة. لم ينتظر أحد خطط إعادة الإعمار. رغبتهم كانت إيجاد أي وسيلة للاستقرار، في أي مساحة صغيرة تصلح للحياة. لهذا، ازداد الطلب على البيوت الجاهزة، صارت حلًا مؤقتًا يخدم بين ثلاث وأربع سنوات. لكن هذه البيوت، رغم بساطتها، باتت هدفًا مباشرًا للاحتلال. صار واضحًا أن الإسرائيلي لا يريد للأهالي أن يبقوا، لا يريد لقرى الجنوب أن تستعيد عافيتها، لذلك بدأ باستهداف البيوت الجاهزة كما استهدف البيوت الحجرية من قبل. لم يعد تدمير المنازل كافيًا، بل المطلوب هو التأكيد على أن الحياة نفسها غير ممكنة في تلك المناطق.المشهد نفسه، الخسارة نفسهافي كفركلا، كان الاحتلال يراقب كيف تحاول البلدة استعادة شيء من عافيتها. كان الاستهداف واضحًا: قصف عدة بيوت جاهزة في الآن معاً، من بينها بيت أقامه مجلس الجنوب لخدمة الأهالي والبلدة. ولم يكن الأمر استهدافًا عشوائيًا، بل رسالة تقول إن أي محاولة لترميم الحياة ستُقابل بالنار. ولم يكن ذلك في كفركلا وحدها، ففي يارون وحولا وبلدات أخرى، أحرقت الطائرات الإسرائيلية عددًا من البيوت الجاهزة، واستمرّ إطلاق القنابل الصوتية والمتفجّرة، كأنها تُذكّر الأهالي بأنهم تحت المراقبة، وأن كل محاولة للإستقرار ستكلفهم المزيد من الخسائر.يقف خضر عواضة، إبن كفركلا، على أنقاض بيته الجاهز المحترق. المشهد نفسه يتكرر، كأنما يعيش نسخته الشخصية من النكبة، مرة بعد أخرى. كما وقف يومًا فوق ركام منزله الأساسي، ها هو الآن يعود إلى النقطة ذاتها، أمام الفراغ ذاته، أمام الخسارة نفسها.قبل أسابيع، قرر ألا يرحل. اشترى بيتًا جاهزًا، أعاد ترتيب المكان، أقنع نفسه أن بإمكانه أن يبدأ من جديد. لم يكن يريد أكثر من سقف، مجرد سقف، يحتمي تحته مع أولاده، بعد أن جرّب النزوح والتشرد. يتذكر بصوت متعب: "عدت بعد وقف إطلاق النار إلى البلدة ولم أجد إلا زاوية صغيرة من حديقة منزلي المؤلف من ثلاث طبقات. لم أيأس وقررت أن أبقى في البلدة مستقدماً بيتاً جاهزاً. علمت على تجهيز المكان لتشييده بأسرع وقت ممكن كي نمضي عطلة عيد الفطر فيه. لكن قبل العيد بيوم قصفوا المنزل وعدت إلى نقطة الصفر".انتزاع أمل العودةويضيف عواضة "هذا الجيش المحتلّ لا يقصف البيوت الجاهزة فور وضعها، بل ينتظر انتهاء أصحابها من تجهزيها بالأثاث والمفروشات كي تكون خسارتنا أكبر. كأن الغرض ليس التدمير فحسب بل انتزاع أمل العودة منّا".وروى عواضة أنه عندما بدأت الطائرات الإسرائيلية باستهداف البيوت الجاهزة، نصحه أصدقاؤه بوقف الأعمال وإزالة البيت: "لكنني لم أكن قادراً على اتخاذ هذه الخطوة كي لا أبدو رخيصاً أو بلا كرامة في قريتي"، كما قال، مضيفاً: "مكان بيتي في الشخروب، وهو بعيد عن أي نقطة عسكرية، ولا يشكّل تهديدًا لأحد. ومع ذلك، كنت على يقين أن الاستهداف سيطالني عاجلًا أو آجلًا".يتنهد وينهي حديثه: "لم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بتدمير بيوتنا وبلداتنا وكل ما هو حيوي فيها، بل يريد أن يُمحو أي أثر للحياة هنا. يريد الجنوب أرضًا خاوية. لكننا لن نرحل. سنبقى".إعادة الحياة إلى ساحة القريةفي بلدة حولا، قرر حسن نصرالله إعادة الحياة إلى الساحة العامة لبلدته على طريقته الخاصة. لم يكن يريد أن يفتح دكانًا أو يعيد بناء منزله أولًا، بل كان يرى أن أهم ما يحتاجه الناس بعد الحرب هو مكان يجلسون فيه معًا، يستعيدون أنفاسهم، يتبادلون الحديث، ويشعرون أنهم عادوا حقًا.فكرته كانت بسيطة "بدنا نرجّع الشباب، نرجّع الناس للقعدة". اختار بيتًا جاهزًا، وضعه في وسط البلدة، وحوّله إلى قهوة. لم يكن الأمر سهلًا، لكنه كان مصممًا. فالمقهى كان جاهزاً منذ أيام الحرب، وكانت كلفته نحو 20 ألف دولار. بدأ تجهيز المكان، وضع إنارة، وأعدّ كل شيء ليستقبل زبائنه ليلة العيد. أراد أن يكون العيد مختلفًا، أراد أن يشعر الجميع أن الحياة يمكن أن تستأنف هنا، رغم كل شيء.لكن، الاحتلال الذي يراقب تحركاته، أدرك أن القهوة صارت جاهزة. استيقظ نصرالله قبل يومين من العيد ليجد قهوته محترقة. لم تكن هناك حاجة لسؤال أو تحقيق. الرسالة واضحة، الاحتلال لا يريد أن يرى حياة هنا.وقف نصرالله أمام رماد المقهى بلا غضب ولا انفعال، فقط صمت ثقيل وسط إدراك عميق لما يجري. لم يكن الأمر يتعلق بالمال أو بالخسارة، بل بالتهديد الذي أدركه جيدًا. وقال: "وصلت الرسالة، المرة المقبلة ربما لن يكتفوا بحرق البيت الجاهز، بل سيحرقون من في داخله".في العديد من القرى الحدودية أقدم الجيش الإسرائيلي على قصف البيوت الجاهزة قبل مباشرة أصحابها استخدامها. أهالي تلك القرى كانوا يريدون العودة إلى أرضهم كإعلان صريح منهم بأن البيوت الجاهزة ليست مجرد هياكل مؤقتة، بل رسالة اصرار على الحياة، والتشبث بالأرض. أما العدو الإسرائيلي فيرفض بالنار هذه العودة، ممارساً سياسة الاقتلاع النهائي من الأرض. لكن الاحتلال الإسرائيلي، وإن امتلك القدرة على القصف والتدمير، لم يستطع حتى الآن أن يقتل إرادة العودة، كما يتبين من مواقف أصحاب تلك البيوت، الذين سيعاودون استقدام غيرها.