منذ توقيع إتفاق الطائف في العام 1989، تم الاتفاق على تسليم سلاح كل الميليشيات والمجموعات التي شاركت في الحرب الأهلية، باستثناء ما أعتبر أنه سلاح مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، أي سلاح حزب الله، ومعه سلاح المخيمات ومعسكرات الفصائل الفلسطينية التي تدور في فلك النظام السوري الذي كان وصياً على لبنان برعاية دولية وعربية، أميركية سعودية تحديداً.
وتحت عنوان تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا بقي السلاح حتى بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب في العام 2000، ودخل الحديث بشأنه حيز المحرمات ومُنعت مقاربته حتى في مرحلة ما بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري، وحركة 14 آذار للعام 2005 وانسحاب الجيش السوري من لبنان. على الرغم من تجدد الدعوات إلى سحبه، ظلّ سلاح حزب الله محور تجاذب داخلي وخارجي، وضع حزب الله على لائحة المنظمات الإرهابية، وتعاطى معه الداخل على أنه ميليشيا مسلحة خارج إطار الدولة، مقابل من إعتبره مقاومة طالما لا يزال هناك أراض خاضعة للاحتلال.
زاد الشرخ حول مقاربة السلاح وركزت قوى 14 آذار على نزعه وحصر السلاح بيد الأجهزة العسكرية والأمنية. توالت المحاولات لإقرار إستراتيجية دفاعية لمناقشة آليات نزع السلاح واستعادة سيادة الدولة وإحتكارها للسلاح وبالتالي، لقرار الحرب والسلم. لكن كل هذه الدعوات، لم تؤد إلا إلى مزيد من الشرخ السياسي في البلد.الحوار والمحاولات الفاشلةفي العام 2006، تمت الدعوة إلى طاولة حوار وطني برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه بري لمناقشة قضايا أساسية، أبرزها مسألة سلاح حزب الله وتطبيق القرار الدولي 1559 الذي يدعو إلى نزع سلاح الميليشيات، كل الميليشيات.
لم يخرج الحوار الذي شارك فيه الأقطاب السياسيون كافة، وفي مقدمهم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، إلا بتوصيات حول نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وتنظيمه داخلها، وترك بحث موضوع سلاح الحزب رهناً بإعداد استراتيجية دفاعية يتم التوافق بشأنها في مرحلة لاحقة. ثم تعثرت جلسات الحوار التي عقدت في ساحة النجمة بسبب إندلاع حرب تموز 2006 . فتوقف البحث بموضوع السلاح على الرغم من تشدد قوى 14 آذار في الدعوة لنزعه لأنه جر حرباً إسرائيلية هي الثانية على لبنان، بعد عناقيد الغضب في العام 1996. في المقابل شدد الحزب تمسكه بسلاحه تحت عنوان توازن الردع مع إسرائيل بعد 33 يوماً من حرب إنتهت بإصدار القرار الدولي 1701، الذي اعتبر الحزب أنه هو من فرضه بعد معركة وادي الحجير التي عرفت بمقبرة الميركافا. مع العلم أن هذا القرار عزز إنتشار القوات الدولية العاملة في الجنوب "اليونيفيل" على طول الخط الازرق، ورفع عدد الدول المشاركة فيها إلى 49 . كما تحدث عن منطقة منزوعة السلاح خارج إطار الشرعية جنوب الليطاني. الأمر الذي لم ينفذه حزب الله، لا بل زاد من نشر ترسانته العسكرية والصاروخية في أنفاق أقامها تحت الأرض وفوقها. ثم جاء إتفاق الدوحة، الذي فرضته أحداث السابع من آيار العام 2008، عندما حوّل حزب الله سلاحه بوجه الداخل بعدما إتخذت حكومة فؤاد السنيورة في جلسة مجلس الوزراء في الخامس من آيار قرار نزع السلاح، أسقطه الحزب بقوة سلاحه في العاصمة بيروت وفي الجبل. فرضت التسوية الإقليمية التهدئة ومنع إستخدام السلاح في الداخل، لكنها لم تقارب موضوع هذا السلاح ومصيره.جرت محاولة جديدة من قبل رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان لإقرار استراتيجية دفاعية على طاولة حوار عقدت في بعبدا. طرح سليمان رؤيته للاستراتيجية الدفاعية، والتي تضمنت وضع سلاح حزب الله تحت أمرة الدولة. لكن الحزب رفض الطرح. وإزداد الشرخ السياسي خصوصاً بعد "إعلان بعبدا" الذي نصّ على تحييد لبنان عن صراعات المحاور الإقليمية. رفض حزب الله الإعلان ولم يلتزم به، لاسيما بعد إندلاع الحرب في سوريا، ومشاركته في القتال إلى جانب جيش نظام بشار الاسد.نزع السلاح قرار خارجيبعد انتخابه رئيسًا في تشرين الاول العام 2016، أعلن ميشال عون عن نيّته إطلاق حوار وطني لمناقشة الاستراتيجية الدفاعية. إلا أن المبادرة تأجلت مرارًا بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية المتلاحقة التي شهدها عهده، بموازاة تزايد الأزمات في الإقليم. كان عون يدرك أن نزع سلاح حزب الله كقضية نزع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وداخلها، لا يمكن أن يتحقق إلا بموجب تسوية إقليمية دولية كبرى بين رعاة هذا السلاح الإقليميين والدول الكبرى. ولهذا وخلال زيارته إلى المملكة العربية السعودية في كانون الثاني 2017، قال عون إن نزع السلاح مرتبط بتطورات إقليمية وليس بقرار داخلي لبناني فقط. وعلى الرغم من إعلانه في آذار العام 2019، خلال لقاء مع السفراء الأجانب، أن ملف إلاستراتيجية الدفاعية سيُطرح بعد إنتهاء التحديات الإقليمية، لكنه لم يُحرز أي تقدم ملموس على هذا الصعيد. وكان موضوع سلاح حزب الله قد اندرج في البند العاشر من ورقة التفاهم التي وقعها عون مع نصرالله في 6 شباط 2006 في كنيسة مار مخايل ذات الرمزية الجغرافية والدينية. يتحدث البند الذي حمل عنوان "حماية لبنان وصيانة إستقلاله وسيادته"، عن تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وحماية لبنان من خلال إستراتيجية دفاع وطني يتوافق عليها اللبنانيون، وهو ما لم يتحقق حتى اللحظة.
تباينت مواقف القوى السياسية اللبنانية بشأن سلاح "حزب الله". وإستمر الانقسام العامودي بين رأيين، رأي يرى أن لا مكان لهذا السلاح في الاستراتيجية الدفاعية، وأن الدفاع عن الدولة يجب أن يكون حصراً بيد الجيش اللبناني، وآخر يرى أن سلاح حزب الله ضروري لمواجهة التهديدات الإسرائيلية، ويطالب بإستراتيجية دفاعية تبرّر الإحتفاظه به، وليس تسليمه للجيش.وطيلة السنوات الماضية ولاسيما بعد ثورة 17 تشرين الاول العام 2019، إستمرت الضغوط الدولية على لبنان لمعالجة مسألة سلاح الحزب وفك إرتباطه مع إيران وإمتداداته إلى اليمن والعراق وسوريا وفلسطين، وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، تحديدا القرارين 1559 و1701. لكن عجز السلطة وعدم جديتها أديا إلى عزل لبنان ومقاطعته عربياً ودولياً. وجرى ربط دعم الدولة للنهوض من إلانهيار المالي والأزمة الاقتصادية غير المسبوقة، بمدى إلتزام لبنان بتعزيز سيادة هذه الدولة وبسط سلطتها على كامل أراضيها.وهم توازن الردعلطالما رفع حزب الله شعار "توازن الردع" مع إسرائيل، مؤكداً على أن ترسانته العسكرية تشكل ضمانة لردع أي عدوان إسرائيلي على لبنان. غير أن جبهة إسناد غزة التي تسببت بحرب مدمرة شنتها إسرائيل على لبنان، وإغتالت قيادات الصف الأول في حزب الله وفي مقدمهم السيد نصر الله، أظهرت هشاشة معادلة الردع، وعدم قدرة الحزب على فرض قواعد إشتباك جديدة أو تغيير معادلات الميدان. الأخطر أن كشف إسرائيل لقيادات الحزب، أكان في لبنان أو سوريا، وعدم التكافؤ بالقدرات العسكرية والتكنولوجية، أثبت أن توازن الردع، إما أنه كان مجرد دعاية سياسية، أو أن حسابات الحزب كانت خاطئة وقد أساء تقدير قدرات إسرائيل وحجم خرقها له منذ حرب تموز، وفي خلال مشاركته في القتال في سوريا.
إذاً بات واضحًا أن سلاح الحزب لا يمثل عامل حماية للبنان. فبدلًا من أن يكون عنصر ردع، تحول بعد الحرب الأخيرة إلى أداة لاستدراج الضربات الإسرائيلية. مما يزيد في إضعاف الأمن والاستقرار، ويؤكد على ضرورة نزعه وإعادته إلى الدولة اللبنانية، وفق القرارات الدولية، وعلى رأسها القرار 1559 و1701. ليس فقط جنوب الليطاني، وفق قراءة ثنائي أمل - حزب الله لاتفاق وقف إطلاق النار، وإنما شمال الليطاني وصولاً إلى الحدود مع سوريا وفق قراءة القوى السياسية الأخرى في البلد والقوى الدولية. ما يشهده الجنوب والحدود مع سوريا من خرق لاتفاق وقف النار من قبل إسرائيل، وما حصل بإستهداف الضاحية الجنوبية بالتزامن مع المباحثات التي كان يجريها رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون مع نظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون في باريس، وما قاله أحد المسؤولين في حركة أمل أمام مجموعة من الصحافيين في إحدى المناسبات الاجتماعية عن رسائل خارجية للبنان، وتحذير من التراخي في مسار نزع سلاح حزب الله، سيُبقي الساحة مكشوفة أمام مزيد من الخروقات والاعتداءات الإسرائيلية، إلى أن تنجز الدولة اللبنانية الجزء المتعلق بها من الاتفاق، أي نزع سلاح حزب الله جنوب الليطاني وشماله. وفي هذا الإطار قالت أوساط ديبلوماسية لـ"المدن" إن "ما يتم الإيحاء به من أن موضوع السلاح شمال الليطاني لا يمكن مقاربته إلا عبر طاولة حوار حول إستراتيجية دفاعية تجنباً لأي صدام داخلي بين الحزب وبين الجيش والقوى الاخرى، لا يقبل به رعاة الاتفاق، ولن يثني إسرائيل عن التمادي باعتداءاتها. فالجانب اللبناني الذي أبرم إتفاق وقف إطلاق النار يعلم جيداً ما ورد في بنوده، أكان في ما خص جنوب الليطاني أو شماله".وبحسب الاوساط عينها، فإن هذا الأمر سمعه رئيس الجمهورية أكان في باريس أو في خلال الاتصالات التي أجريت لمنع الأمور من الانزلاق إلى الأسوأ. كما رأت الأوساط في موقف الرئيس الفرنسي الأخير، الذي دعا في خلال الإتصال الذي أجراه مع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى إحتكار الدولة اللبنانية للسلاح، رسالة واضحة أن المطلوب من لبنان معروف، وأي حسابات خاطئة خارج إطار الاتفاق ستبقي الوضع مفتوحاً على كل الاحتمالات.