أغلب الظن، لم يكن الملياردير الأميركي جورج سوروس يعلمُ، في تمام الساعة 12:30 من ظهر يوم أمس، أنّ مجلس وزراء لبنان قد انعقد لتعيين حاكم جديد لمصرف البلاد المركزي. ولا يوجد ما يدفع للاعتقاد بأنّ ثروة الرجل ستنقص أو تزيد سنتًا واحدًا، إذا قرّر الحاكم الجديد أن يطبّق هذه السياسة النقديّة أو تلك. أو إذا قرّر مجلس الوزراء تعيين هذا الحاكم أو ذاك. ولا تقتصر المسألة هنا على سوروس نفسه، في قطاعٍ تخرجت منه تباعًا أهمّ المصارف العالميّة قبل العام 2019، قبل أن يعزل نفسه بالتحوّل إلى أشباح "مصارف زومبي" بعد حصول الأزمة.
ومع ذلك، ثمّة شريحة واسعة من المؤثّرين و"الخبراء" والإعلاميين الذين ناموا ليلتهم يوم أمس، سعيدين بهزيمة سوروس النكراء. لقد تكاتفوا جميعًا، في جلسةٍ حكوميّة واحدة: الثنائي الشيعي القلق على قنوات تمويل المقاومة، أو نفوذه في شركة "إنترا" التابعة للمركزي، لا فرق، مع وزراء القوّات والكتائب، الباحثين عن الحاكم الذي سيحاصر حزب الله ماليًا، وصولًا إلى وزراء الرئيس، الذي خاض مستشاره معركة تسويق كريم سعيد.
لا شيء، سوى الرغبة بهزيمة سوروس ومؤامرته النكراء، يمكن أن يبرّر تكاتفًا سياسيًا من هذا النوع، لتعيين شخصيّة تملك خلفيّة كريم سعيد. في نهاية الأمر، نحن نتكلّم عن شخص قدّم، في مناقشة مصوّرة وموجودة على الإنترنت، رؤية كاملة لمعالجة أزمة المصارف. والدراسة الممولة من الشركة التي يديرها سعيد، تتحدّث صراحةً عن مصير الودائع: إزالة كل ما يفوق الـ 100 أو 150 ألف دولار من كل وديعة، وتحويل هذه المبالغ إلى ديون عامّة، قبل تنفيذ اقتطاعات تصل إلى 80% أو 90% من هذه الديون (التي تشمل حقوق المودعين).
لا بد، لهزيمة سوروس، من تعيين كريم سعيد. هذا ما قالته طوال هذا الشهر حملة إعلاميّة خاضتها جميع المنصّات والصحف والبرامج التلفزيونيّة، الممولة جميعها من أشرس المصرفيين اللبنانيين (وأخطرهم على الإطلاق). أن لا يصل سعيد، فهذا يعني وصول أحد مرشّحي سوروس، الذين يحلمون بضرب القطاع المصرفي والنظام المالي، الذي يشكّل -على ما تقول السرديّة- واحة لبنان وقلب اقتصاده الحرّ.
لم يكن جوهر النقاش المحتد إذًا السؤال عن برنامج سعيد ورؤيته، أو عن سبب حماسة الامبراطوريّة الإعلاميّة -التابعة للمصرفي الخطير إياه- لخوض المعركة بهذا الشكل المنحط. لم يكن السؤال عن خطّة عمل مرشّح للحاكميّة، جاء على ظهر حملة قضائيّة تلاحق الاقتصاديين والإعلاميين المناوئين لنفوذ اللوبي المصرفي، وحملة إعلاميّة تضرب بشتّى أنواع الاتهامات الرديئة -والسخيفة بصراحة- مصداقيّة المعارضين لهذا اللوبي. في النهاية، هزيمة سوروس، هي المطلوبة.
لقد كانت الحملة الإعلاميّة والقضائيّة –على مدى شهرٍ كامل- ماكرة بما فيه الكفاية، لخلق نقاشٍ متوتّر وبعيد عن السؤال حول هويّة وبرنامج سعيد نفسه. واستهدفت الحملة استباقيًا كل منبر يمكن أن يسأل عن خلفيّة سعيد أو برنامجه، بوصفه تابعًا لمؤامرة سوروس الخطيرة إياها. ويصبح فعل التعيين يوم أمس، في خلاصة الحملة، أشبه بحال ذاك القروي في المثل الشعبي الشهير، الذي أتى بالنجاسة على نفسه نكايةً بالطهارة. النكاية، تصبح العنصر الحاسم هنا.
وليس الهدف هنا السؤال عن كيفيّة نجاح هذه الحملة. فالرأي العام، قبل العام 2019، ابتلع بحر"أفضل حاكم مصرف مركزي" في الكوكب، بتسويق من الإمبراطوريّة الإعلاميّة نفسها. بل وابتلع بحارًا من الحديث عن عبقريّة الهندسات الماليّة، وكأنّ لبنان اكتشف سبيلًا لخلق الثروة باختبارات نقديّة عجيبة. ومن ابتلع هذه البحار، لن يغصّ بساقية الحملة الإعلاميّة الأخيرة.
غير أنّ الضرورة هنا، العودة للإشارة إلى مسألة مهمّة: لم يقم هذا اللوبي، وإمبراطوريته الإعلاميّة، بعملٍ خلّاق أو مبتكر. إذهبوا إلى روسيا بوتين، وبيلاروسيا لوكاشينكو، وهنغاريا أوربان،...ألخ. وستسمعون المفردات نفسها، على لسان كل من يبرّر السلطويّة وما يحيطها من ضروب الفساد، حول المؤامرات الخارجيّة، وفي طليعتها مؤامرة سوروس إياه. وتستمد المؤامرة مفرداتها دائماً من قواميس عتاة المحافظين واليمين المتطرّف الغربي، الذي يحابي أصلًا هذا النوع من السلطويات، ويحتقر قيم دولة القانون والديمقراطيّة. الأفكار لها أجنحة. والنخب الإعلاميّة اللبنانيّة، أتقنت استيراد هذه الأفكار ببراعة.
يستحضر السؤال نفسه: هل كان من الممكن أن تنجح كل هذه الحملة، بالنسبة إلى منصب يتصل بضرورة الرضا الأميركي، لو كان في البيت الأبيض رئيسًا غير ترامب؟ يصعب الجواب. لكنّ الاكيد، هو أنّ مناخات الإدارة الأميركيّة الحاليّة، تتماهى مع الخطاب الذي استخدمته هذه الحملة في لبنان. وفي النهاية، ترامب ووجوه إدارته يتموضعون في أقصى نهاية الطيف السياسي اليميني، المُتصالح ببراغماتيّة مفرطة مع هذا النوع من النخب الماليّة اللبنانيّة.
نعود للسؤال الأوّل: ماذا يملك سوروس في لبنان؟ لا يملك شيئًا كمستثمر. وعلاقته بالشأن اللبناني تقتصر على بعض المنح التي تقدّمها جمعيّته "المجتمع المفتوح"، وهي واحدة من مئات المؤسسات الدوليّة والأجنبيّة التي تقدّم هذا النوع من المنح. لا يملك اللوبي المصرفي إياه جرأة التصويب على منظمات الاتحاد الأوروبي أو فرنسا أو ألمانيا بالشكل نفسه، فيجد في "المجتمع المفتوح" عنوانًا مناسبًا لحملة كهذه. وفي أدبيّات حلفاء هذا اللوبي، من الشعبويين اليمينيين في الغرب ما يكفي من مقاطع فيديو يمكن الاستعانة بها، لتبرير وجود "مؤامرة سوروس".
لكن في المقابل، ماذا سيملك كريم سعيد في السنوات المقبلة؟ الكثير. هي كتلة لا تُضاهى من الصلاحيات، التي وضعها القانون في يد حاكمٍ جديد، بتنا جميعًا نعرف خلفيته ونوعيّة الجهات التي خاضت معركته.هزمت طوائف لبنان سوروس إذاً، فلنرى نتيجة انتصارها.