شكل مقطع الفيديو المنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، ويصوّر رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون يتحدث عن مبالغ مالية، جرس إنذار لخطورة التزييف العميق بمقاطع الفيديو، واستغلال الرموز فيها. ففي مقطع فيديو مدعوم إعلانياً في مواقع التواصل الاجتماعي، ظهر الرئيس عون يدعو إلى الاستثمار في شركة مالية خاصة، وأثار الفيديو موجة واسعة من الجدل والتساؤلات، في ظلّ ما تحمله هذه الرسالة من دلالات سياسية واقتصادية.
ونفت رئاسة الجمهورية اللبنانية صحة الفيديو، مؤكدة أنّه "مفبرك باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي"، ودعت المواطنين ووسائل الإعلام إلى تجاهله وعدم تداوله "مطلقاً".
أول تزييف رسمي لبناني
هذه الحادثة، هي الأولى من نوعها في لبنان بهذا المستوى الحساس، وتُعدّ إنذاراً حقيقياً حول إمكانات تقنيات التزييف العميق (Deepfake) في اختراق المجال العام والتلاعب بالرأي العام. ويكتسب الموضوع خطورته من أن الفيديو يستهدف مقام رئاسة الجمهورية، بما تحمله هذه الرمزية من ثقل وطني، خصوصاً في بلد يعاني أصلاً هشاشة سياسية واقتصادية، ما يجعل أي خبر كاذب أو محتوى زائف عامل توتر إضافي.
ما هو "التزييف العميق"؟
تقنية "التزييف العميق" تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وبالأخص على ما يعرف بالشبكات التوليدية التنافسية (GANs)، وهي خوارزميات تقوم بتوليد محتوى رقمي – فيديو أو صوت أو حتى صور – يظهر وكأنه حقيقي تماماً، ويصعب في كثير من الأحيان التفريق بينه وبين الواقع حتى بالنسبة إلى المتخصصين. يُدرّب الذكاء الاصطناعي على محاكاة تعابير الوجه، نبرة الصوت، حركة الشفاه، وحتى ردود الأفعال، ما يجعل من السهل نسبياً "خلق" تصريحات لم تصدر قط عن أصحابها.
ورغم أن بدايات استخدام هذه التقنية كانت في مجالات الترفيه، إلا أن انتشارها أخيراً أخذ منحى مقلقاً، إذ جرى استغلالها لتزييف تصريحات لعدد من الشخصيات العامة حول العالم، مثل مقاطع فيديو مفبركة للرئيس الأميركي السابق جو بايدن، والرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب خلال فترات حملاتهما الانتخابية، وكذلك لملياردير التكنولوجيا إيلون ماسك والمرشحة الرئاسية كامالا هاريس. وفي معظم هذه الحالات، كان الهدف سياسياً أو دعائياً، أو حتى استغلالاً استثمارياً لجذب المستخدمين إلى منصات وشركات وهمية.
سياقات تجارية
لكن ما يُثير القلق بشكل مضاعف هو أن هذه التقنية بدأت تُستخدم في سياقات تجارية واحتيالية مباشرة، كما حدث في الفيديو الأخير في لبنان، حيث استُخدم اسم رئيس الدولة للترويج لشركة خاصة. وهذا تطور بالغ الخطورة، لأنه يضع الذكاء الاصطناعي في موقع تهديد مباشر للثقة العامة، ويجعل المؤسسات والدول عرضة لحملات تضليل منظمة.
المخاطر المترتبة على هذا النوع من التزييف لا تقف عند حدود السمعة أو التضليل الإعلامي، بل يمكن أن تمتد إلى التلاعب بالأسواق، بث الفوضى في المجتمعات، إثارة الذعر أو التحريض على العنف. والأسوأ أن انتشار هذه المواد عبر المنصات الرقمية يجعل من الصعب كبحها أو التحكم في مداها وانتشارها.
الواقع المصطنع
وفي ضوء هذه الحادثة، لا يمكن التعامل مع الموضوع كأنه مجرد حالة عابرة أو تصرف فردي. فلبنان، كما باقي الدول، بات أمام تحدٍّ جديد اسمه "الواقع المصطنع"، وهو واقع رقمي قد يبدو حقيقياً لكنه مزيف بالكامل. وبالتالي، تدقّ هذه الحادثة ناقوس الخطر، وتفرض على السلطات التشريعية والتنفيذية التحرك بسرعة لوضع إطار قانوني صارم يجرّم إنتاج ونشر المحتوى المزيف، ويلاحق مرتكبيه، مع ضرورة تطوير أدوات تقنية في المؤسسات الإعلامية والأمنية لكشف هذه التزييفات ومعالجتها.
فالتحصين القانوني والتقني بات اليوم ضرورة وطنية، وليس ترفاً، لحماية مؤسسات الدولة وصون الوعي الجماعي من التضليل والخداع المتقن الذي تتيحه تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة.