لم نعد اليوم في منأى عن اقتحام التكنولوجيات الذكية حياتنا، بدءاً من المجال الاقتصادي المالي، إلى المجال الصناعي والعسكري، مروراً بالإعلام والفنون والتعليم. ومع تطوير عمل الحواسيب في بداية الثمانينات، ازداد الاعتماد عليها لإنجاز المهمات العسيرة في هذه الحقول كافة، وازدادت معها الإنتاجية والإمكانيات الإبداعية. ومثل كل جديد نقف حيارى ومترددين، بين الخشية من الوافد المجهول، أوالبقاء على المألوف والمعتاد. معلَّقين بين الانبهار به، والتوجّس منه. ويتنبأ jean- françois bonnefon مدير الأبحاث في علم النفس المعرفي في كلية تولوز الفرنسية، بأننا سوف نكون إزاء الذكاء الإصطناعي شهوداً على ثورة في الثقافة الإنسانية، تعادل بأهميتها عودة المستكشفين من الصين زمن ماركوبولو، وهم يحملون بين أيديهم النقود الورقية، كما الصدمة التي احدثتها مطبعة غوتنبرغ، وكل الصدمات الثقافية التي تركت أثرها العظيم على تغيير العقليات والأذواق التي شهدها العالم.
بات الذكاء الاصطناعي يخطو خطواته السريعة، نحو احتلال العقول والفضاء الإجتماعي وقطاعات العمل، وبدأ معه يتغيّر المشهد اليومي لحياتنا وبيئتنا. غدا استخدامه أمراً مفروغاً منه، ولا قدرة لنا على دفعه، أو التغاضي عنه، أو تأجيله، فدخل في كل حقل، وتسرّب إلى كل مجال وناحية. وانتشر في الغرب الذي صنعه، انتشار النار في الهشيم. وهذه الآلة الذكية التي ابتكرها الإنسان، قبل أن تخرج عن طوره وإمرته، أو هكذا يتراءى المستقبل عند المتشائمين أو المغالين. كانت الموضوع المدهش الذي استلهمه كُتّاب الخيال العلمي في هوليوود، واستقطب جمهوراً غفيراً من عشاق السينما، كما في فيلم فرنكنشتاين، لمؤلفته ماري شيلي العام 1931. التي طرحت من خلاله مسألة تفوّق الآلة على الإنسان، وهو موضوع مطروح اليوم بحدّة، بعدما تجسّد الخيال واقعاً.
في عالم السينما اليوم، تنحو شركات انتاج الأفلام العالمية، مثل شركة: 20th centrury fox وشركة warner bros إلى استخدام الذكاء الاصطناعي لاختيار السيناريوهات المناسبة، والممثلين الجديرين بالقيام بأدوار البطولة. كما العمل على تحليل أذواق جمهور المشاهدين، ومراعاة ميولهم السياسية والدينية، وإضافة الترجمة، وإجراء الدبلجة، وإنشاء المؤثرات الصوتية، وتحديد تاريخ إطلاق العروض، بما يتناسب مع الظروف الملائمة لتحقيق الأرباح والانتشار.
وثمة إبداعات جديدة تحققت من خلال التفاعل بين الفن والتكنولوجيا، حيث تطوَّر العمل الموسيقي، بفضل الاستعانة بالذكاء الاصطناعي الذي أمكن بواسطته تأليف مقطوعات موسيقية، تحاكي أعمال بيتهوفن. واستطاعت شركة EMI تأليف سمفونية كاملة على منوال سمفونيات موزارت. وعِبر المختبرات البحثية، استطاعت التقنيات الذكية تفكيك رموز حركات الراقصين والراقصات، وخلق أنغام مستوحاة من وضعية الأجسام الراقصة المواكبة للأنماط الإيقاعية واللحنية.
في عالم الكتاب، بدأت المنصّات الثقافية بمكننة النصوص، وتحويلها إلى نسخ صوتية، وزاد من حجم هذه الصناعة مراعاتها رغبات القراء وأذواقهم، واستعان بعض المؤلفين في العالم، مثل الكاتب الهندي vikram chandra بأحد البرامج الذكية لمساعدته في التخطيط للعناصر السردية لنصه الروائي إبّان إنشائه. كذلك اعتمد القاص الاميركي robin sloan على الذكاء الاصطناعي لانتاج حوارات شخصياته القصصية.
وقد يفضي التفاعل المعقّد بين الذكاء الاصطناعي والثقافة، بما هي إبداع إنساني مخصوص، إلى إشكاليات تتجاوز عمليات محاكاة العقل الآلي للعقل البشري، وتساهم في تشكيل معايير ثقافية ومجتمعية، ذات أثر دامغ على تصورنا لأنفسنا، وبناء هويتنا، وإعادة تشكيل نسيجنا الوجداني والفكري الجماعي والفردي. وبما يتعلق بمستقبل الذكاء الاصطناعي، ثمة وجهتا نظر متعارضتان بين فريقين: أحدهما، يعتقد بديمومة هذه التقنية المستحدثة، كأداة يسخّرها البشر لخدمتهم، ويرى أنّ التقاطع بين التكنولوجيا والثقافة، ليس صراعاً بين طرفين، إنما هو تناغم متبادل يثري التجربة الجماعية.
وثانيهما، يتخوّف من تقهقر قوة الإنسان إزاء القوة الممنوحة لهذه الآلة الأكثر تطوراً، والأقدر على التكيّف مع سياقات جديدة، غير تلك التي صُممت من أجلها، حيث يمثّل تعاظم استخدام التقنيات المتطورة، قوة تحويلية تعمل على تغيير المعايير والهويات المجتمعية بشكل عميق. فبفضل الذكاء الاصطناعي، يقول إيلون ماسك: "نحن نستدعي الشيطان". وكما أن الاتصالات عبر الهواتف الذكية بدّلت ملامح، أو طبيعة التواصل الإجتماعي، فمن المرجح أن تمتلك الروبوتات قدرات ومهارات معرفية جديدة، لا يمكن التكهّن بها. من بينها ما هو متعلق بالأخلاق المهنية، والأعمال الإبداعية، والملكية الفكرية. وهذا الأمر الأخير دفع الدولة الفرنسية في الشهر الماضي، إلى عقد قمة في باريس، لدراسة تأثير طفرة الذكاء الاصطناعي على القطاع الثقافي، وحماية حقوق المؤلفين والباحثين والفنانين والناشرين. وقد عُقد اتفاق بين المدعوين نصَّ عل استثمار 300 مليار يورو لأعوام قليلة، للتشجيع على ذكاء إصطناعي "أكثر انفتاحاً". أما مشروع الرئيس الأميركي دونالد ترامب stargate فتبلغ موازنته 500 مليار دولار. ومع هذه المبالغ الخيالية، تزداد الفجوة الرقمية بين شرقنا المأزوم، والغرب المنفرج، والمتفرج على نكباتنا المتفاقمة.
وأهم الجوانب السلبية التي تترصّد مجتمعاتنا عدا التفاوت التكنولوجي الحاد بيننا وبين الغرب، هو ما يطرأ اليوم في الحقل الثقافي، من إهمال اللغة العربية في ميادين العمل الإداري والمالي، وفي المحافل العلمية، وتراجع الأنظمة التربوية في الدول العربية التي تفضّل تدريس اللغات الأجنبية، على حساب اللغة العربية، وغياب الأنظمة الحاسوبية المبتكرة والمرنة التي تساعد على التفاعل السلس، بين الطالب العربي، والآلة الذكية المتناغمة مع التطبيقات المتقدمة ومتطلبات العصر الحديث، لا سيما تطوير عملية الرقمنة لتسهيل الوصول إلى المصادر.
إنّ للذكاء الاصطناعي دوراً في معالجة اللغة وعلاقتها بالترجمة، وما ينجم عنها من تنوّع لغوي وتبادل ثقافي. بيد أنّ العلماء الذين عملوا على تطوير الحواسيب زودّوا حواسيبهم بتأثير الشركات الكبرى للتطبيقات الذكية، باللغة الانكليزية بالمقام الاول، كقاعدة أساسية للبيانات، وسائر اللغات بالمقام الثاني. وأدى ذلك إلى تهميش الناطقين بلغاتهم الوطنية، ومن بينها طبعاً اللغة العربية. ولمثل هذا التهميش عواقب سلبية محتملة على الهوية الثقافية. وعلى رأس هذه المخاوف، احتمال أن تغيب عن الترجمة المتوخاة الدقةُ المتعلقة في كل لغة بذاكرتها التاريخية وإرثها الحضاري. وقد نبّه الباحث اللساني الشهير georges mounin إلى واجب كل مترجم إجادة اللغة المنوي ترجمتها، وفهم خلفيتها الحضارية، وخصائص شعوبها والمتكلمين بها.
كذلك تأتي صياغة النص المترجم مجرداً من الدلالات العاطفية، وخالياً من العمق الوجداني، ومن البصمة الشخصية، ومن جماليات الاستعارات والمجازات والتعابير الرمزية. وإذ يمكن للذكاء الاصطناعي محاكاة القصائد والنصوص الشعرية العربية، إلا أنه لن يرتقي إلى مستوى الإبداع الشخصي. وقد طلبت في هذا الصدد من أحد تطبيقاته gemini أن يزودني بأحد النماذج التي ابتكرها، فجاءت رغم سويتها النحوية واللغوية جوفاء من الإحساس والشعور، مصداقاً لقول الشاعر أحمد شوقي:
والشعر ما لم يكن ذكرى وعاطفة / أو حكمة، فهو تقطيع وأوزانُ.