2025- 03 - 29   |   بحث في الموقع  
logo حملة مغرضة على "تلفزيون سوريا"...والموظفون يردّون logo جعجع التقى مراد.. تحالف انتخابي في كل الدوائر logo “تذكير” بتقديم الساعة ساعة واحدة اعتبارا من منتصف ليل اليوم logo عدوان: نعارض اي تأجيل للانتخابات البلدية logo القومية والوطنية وعاصفة المتغيرات logo إجتماع تربوي موسّع في مجلس النواب بعد عيد الفطر logo إسرائيل تطيح بالحوار الأميركي الإيراني؟ logo جورج أمن عام.. جورج في الوزارة... إلخ
البلديات واللامركزية على الطريقة اللبنانية
2025-03-26 10:27:32

تتناول الطبقة السياسية في لبنان موضوع اللامركزية بشعبوية لا تمتّ إلى الواقع والحقيقة بصلة. فعلى عكس ما يتمّ إيهام الجمهور به، النظام في لبنان هو نظام لامركزي. فالمادّة الأولى من قانون البلديات تنصّ على أنّ "البلدية هي إدارة ذات صفة عامة وشخصية معنوية تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي، ولها أن تستملك، وتشتري، وتقبل الهبات، وتبيع، وتنشئ العقود وتتقاضى أمام المحاكم، وذلك وفقًا لأحكام هذا القانون وفي نطاق القوانين المرعيّة الإجراء". ثلاثة عناصر في هذه المادة تثبّت لامركزيّة نظامنا: الشخصية المعنوية، الاستقلال الإداري والاستقلال المالي. فالموضوع ليس وجهة نظر، بل إنّه مثبّت في نصّ القانون ولا يقبل أيّ نقاش.
النقاش في موضوع اللامركزية يجب أن يكون في مكان آخر، يجب أن يكون في الفلسفة التي تُلهم مبدأ اللامركزية وتعطيه كلّ القيمة والأهمّية والمحوريّة التي يتمتّع بها.تفريع السلطةإن مبدأ اللامركزية ينبثق من فلسفة التفريع التي تشير في سياق مرتبط بالفكر الاجتماعي والسياسي، إلى أنّ القرارات والإجراءات يجب أن تُتخذ على المستوى المحلي قدر الإمكان، مع تدخّل مستويات أعلى من السلطة عند الضرورة فقط. كما أنّها ترتكز على الاعتقاد بأنّ الأفراد والمجموعات الصغيرة يجب أن يتمتّعوا بالاستقلالية والمسؤولية. وهذا يعكس التزامًا فلسفيًا بالكرامة الإنسانية، والتضامن، والحرّية، والأهلية، وتقرير المصير.
إذن، وانطلاقًا من الارتباط بين المبدأ والفلسفة، تصبح اللامركزية أكثر من مجرّد نقل صلاحيات من المركز إلى الوحدات الصغيرة أو المحليّة، كما يصوّرها السياسيون ويروّجون لها. هي أبعد من ذلك، هي إمساك المجتمعات المحلّية بزمام أمورها والتخلّص من القصور والتبعيّة، والارتقاء إلى مرحلة النضوج والاستقلالية. فنقلُ الصلاحيات يبقى إجراءً شكليًا، ان لم نقل إنه يتحوّل إلى كارثة ما لم يسبقه (أو يترافق معه على الأقل) تحوُّل في عقلية المجتمع عبر إدانة الممارسات الزبائنية، والمحسوبيّات، وفهم عميق للمسؤولية الملقاة على عاتقه جرّاء نقل هذه الصلاحيات.
إنّ فهم المسؤولية هذا، هو تمامًا كعملية التربية التي يحتاجها الفرد ليصبح قادرًا على إدارة حياته بشكل مستقلّ. والسنّ القانوني الذي يبلغه الفرد، أو سنّ الرشد ليس العامل الوحيد الذي يحدّد استقلاليته؛ قانونيًا هو مستقلّ، لكن عدم نضوجه قد يحوّل استقلاليته هذه إلى كارثة يمتدّ تأثيرها على كلّ الناس الذين تربطه معهم علاقات وثيقة ومصيرية، كعائلته مثلًا.البلديّات بين الكثير والقليلتاريخيًا، وكما كلّ مرافق ومؤسّسات الدولة، تمكّن نظام الزبائنية من إخضاع البلديات محوّلًا إياها إلى امتياز للزعيم والحزب والطائفة، خدمةً لمصالحه وديمومته. فتمّ تقزيم مفهوم العمل البلدي، ثم فقدت البلديات مفهومها ودورها. ودائمًا ما تكون الانتخابات البلدية والاختيارية ترجمةً لنفوذ هذا النظام أو لصراع العشائر والعائلات.
إلى جانب الزبائنية واستسلام المجتمع الطوعي أم الإجباري، ساهم غياب الوعي عن دور البلديات كحكومات محلّية، إلى تعميق المشكلات وتراكمها لتصبح مخاطر تهدّد كيان الوحدات المحلّية بشكل خاصّ، والوطن بشكل عام.
إذا كان ادّعاء المعرفة هو العدوّ الأول للمعرفة، فإنّ الحال في مجتمعنا فيما يخص البلديات واللامركزية، يعكس هذه الفكرة. الناس لا ترغب في تصديق أننا نعيش في نظام لامركزي، ولا تريد الاعتراف بأنّ لدينا أدوات يمكن أن تُحدث فرقًا. يفضّلون تأجيل الحلول، ويرون أنفسهم ضحايا غياب قانون اللامركزية. بناءً على مقولة "من يستطع فعل الكثير يستطع فعل القليل"، يصبح المنطق كالآتي: من لا يستطيع فعل القليل، فلن يستطيع فعل الكثير. قد نكون أمام القليل في موضوع اللامركزية، ورغم أنّ هناك حاجة لتطويرها وتحديثها، لكن السؤال يبقى: ماذا فعلنا بالقليل الذي بين أيدينا وماذا أنجزنا به؟سياسيّون من دون سياسةإنّ الدعوة الرائجة في لبنان لضرورة إبعاد البلدية عن السياسة، والتي تصدر في أحيان كثيرة عن أصحاب نوايا حسنة، بحجّة أنّ العمل البلدي هو عمل إنمائي لا علاقة له بالسياسة، تنمّ حقيقةً عن سذاجة أو سوء معرفة بأنّ السياسة هي الإنماء. وإذا راجعنا كلّ تعاريف السياسة، نرى أنّها تنقسم إلى فئتين: السياسة بمعنى الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، والأخرى التي ترى في السياسة حسن إدارة المجتمع ورسم الاستراتيجيات الهادفة إلى تطويره وازدهاره وسعادته. ما يعنينا طبعًا هو التعريف الثاني. فمن الأمور المتّفق عليها في أوساط المنظرّين في الفكر السياسي، أنّ "البلدية هي أقرب نقطة بين المواطن والحكومة"، وبأنّ "السياسة تبدأ في الحيّ وتنتهي في القمّة"، وبأن البلديات هي "خلايا المجتمع السياسية". كيف لا، والبلدية قادرة على تصحيح علاقة اللبناني بأرضه عبر الصلاحيات المناطة بها بموضوع التنظيم المدني. كما أنها قادرة على إعادة احياء الحيّز العام الغائب في حياة اللبناني، وتعزيز ثقافة المواطنة عبر المداولات، وتعريف الموجبات والحقوق. البلدية هي المسرح الذي يخلق قيادات جديدة. كما يمكن للبلدية أن تلعب دورًا محوريًا في حثّ السكّان على التجمّع حول مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية عبر تحفيز العمل النقابي والمهني والتعاوني. أمام أدوار البلدية هذه، والتي ذكرنا البعض منها على سبيل المثال لا الحصر، كيف يمكن الفصل بين السياسة والبلدية؟ المشكلة ليست أنّ البلديات في لبنان هي ضحيّة السياسة، بل الحقيقة أنّ البلديات هي ضحيّة غياب السياسة وحضور السياسيّين، وشتّان بين الثرى والثريّا!اللامركزية خطاب شعبوييعكس هذا الوضع حقيقة مؤلمة حول الوضع السياسي في لبنان، حيث تعاني الطبقة السياسية من قصور في الرؤية الاستراتيجية فيما يتعلّق بالسلطات المحلّية، لا سيّما فيما يخصّ البلديات ودورها في تحسين حياة المواطنين. ويظهر هذا الإفلاس السياسي في اقتصار الأحاديث عن اللامركزية على مستوى الخطاب السياسي، حيث يتمّ الاستثمار في تعزيز الانقسامات وتعميق التوتّرات والتحريض؛ فاللامركزية ليست تنافسًا على الموارد، بل حسن إدارتها، كما أنها ليست خوفًا من الآخر بل تعزيزًا للشعور بالوحدة الوطنية.
ما ذكرته حول خطورة نقل الصلاحيات من المركز إلى الوحدة المحليّة من دون وعي مجتمعي حول دور البلديات من جهة، ومن دون وعي البلديات ذاتها لمسؤولياتها تجاه المجتمع من جهة أخرى، ليس مبالغة. ففي مجال التنظيم المدني مثلًا (وليس حصرًا)، لعبت البلديات في العقدين الأخيرين واحدًا من أسوأ الأدوار: إن عبر عدم حرصها على المحافظة على الأمكنة العامة وحمايتها من التعدّيات، أو عبر التصنيفات العشوائية التي كانت تحصل بعيدًا عن أيّ مرتكز علمي، متحوّلة إلى وكيل عقارات هدفه فقط رفع أسعار الأراضي. إذا كانت البلدية قادرة على إحداث هذه الأضرار، فهي قادرة لأنّها سلطة لامركزية. وبالصلاحيات نفسها، يمكنها أن تكون محرّكًا للتغيير والنهوض والتفكير الاستراتيجي.اليوم موسم الانتخابات البلدية والاختيارية، موسم وجع الرأس بالنسبة إلى الطبقة السياسية، فهي تخشى الدخول في صراع العائلات؛ فنظام العائلات هو نسخة طبق الأصل عن النظام السياسي، تشوبه الكثير من التعقيدات، وتشكيل مجلس بلدي في كلّ ضيعة هو كتشكيل الحكومات. لن يكون للانتخابات أيّ معنى إذا لم تترافق مع تغيير في عقلية المجتمع ونظرته إلى البلدية. كما يجب أن يترافق هذا مع وعي حول مسؤولية البلدية في التصدّي للمخاطر التي تحيط بنا، هي التي ساهمت في تعميق جزء كبير منها.
وفي الحديث عن اللامركزية، على الناس أن تعي أنّ طبيعة كلّ من أحزاب لبنان وزعمائه، واللامركزية، هما كالماء والزيت، لا يمكن خلطهما. حتى نتمكّن من خلق تجانس بينهما، لا بدّ أن يغيّر أحدهما طبيعته: إمّا تتراجع هذه الطبقة عن نظام الزبائنية والنفعية والتحاصص، أو تتنازل اللامركزية عن فلسفة التفريع لتصبح لامركزية على الطريقة اللبنانية: في النصوص وليست في النفوس!


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top