بلدات وقرى قليلة في منطقة بعلبك الهرمل سلمت من نيران الغارات عقب انطلاقة شرارة الحرب في أيلول الماضي. عدد هذه القرى يكاد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. العدوان في البقاع الشمالي طال مناطق عدّة: بعلبك والهرمل، شعث، بوداي، مقنة، بيت مشيك، النبي شيت، بريتال، يونين، البزّالية، العين، اللبوة، سرعين، شمسطار، حربتا، إيعات، زبّود وغيرها العشرات. الخراب والركام في كل زاوية من زوايا هذه القرى، التي تعرّضت لنحو 1453 غارة (200 غارة في اليوم الأخير وحده). خَلَّفت هذه الغارات أضرارًا ماديَّة جسيمة وحصدت أرواح 1060 شهيدًا، وأدت إلى أكثر من 2300 جريح. ورغم وقف إطلاق النار ما زالت منطقة البقاع الشمالي تتعرض للاعتداءات. إلا أن السؤال الأساسي الذي يدور على لسان السكان هو متى تبدأ مرحلة إعادة الإعمار ومن يعوّض الخسائر على السكان؟.كل قرية وشارع ودسكرة، في البقاع الشمالي، لها قصة حزينة دامية مع أهوال الحرب. من رياق حتى حدود قضاء الهرمل، حصدت الهمجية الاسرائيلية الأرواح والبيوت والممتلكات. لم تسلم حتى البساتين ومزارع الأبقار والفروج؛ فالمنطقة تشكّل خزّاناً بشرياً لحزب الله، والممر الاستراتيجي الوحيد من وإلى سوريا فالعراق فإيران.بوداي وشعت والبزاليةجالت "المدن" على هذه القرى مستطلعة وضع السكان، وكيف يتدبرون أوضاعهم، بعد مرور نحو أربعة أشهر على وقف إطلاق النار.مشاهد الدمار في بوداي يصعب وصفها. خراب وركام يُدمي القلوب. فقد تعرضت البلدة لأكثر من 130 غارة أتت على عمرانها. وتجاوز عدد الشهداء في البدة 100 شهيد، فيما الجرحى والمعوقين بالعشرات. تصف المربيّة عليا قاسم (60 عاماً) واقع حال بلدتها بالقول: "عند عودتنا من بلدة دير الأحمر، لم أصدق أنّني في بوداي. كدت أضيع في قريتي. هل هذه هي قريتي التي عشت فيها ستين عامًا؟ البيوت مدّمرة، ومعالمها مشوهة، لا طرقات لا ماء لا كهرباء".بلدة شعث كانت أيضاً مسرحاً لعمليات القصف. بلدة صغيرة قُصفت بـ 19 غارة عنيفة، نتج عنها تدمير 39 وحدة سكنية بالكامل. لجأ اصحابها إلى السكن في منازل أقاربهم أو إلى استئجار منازل خارج البلدة. وقد طال الدمار المزارع وبساتين الزيتون والحقول المزروعة ما أدّى إلى تلف المحاصيل.حال بلدة البزّالية ليس أفضل من جارتها شعث. فهي كانت ضحية أكثر من عشرين غارة، أدّت إلى دمار وتضرّر أكثر من 100 وحدة سكنية بشكل كلّي وجزئي، نظراً لقرب البيوت من بعضها البعض.بعلبك والعينعراقة بعلبك وتاريخها لم يشفع لها أمام عدو مجرم. خوف السكان كان من أن يطال القصف قلعتها التاريخية، وأعمدتها السبعة، قرب معبد جوبتير. لكن الهمجية التي لحقت "مدينة الشمس" طالت أحياءها كافة، ودُمِرَت المنشيّة ومقاهي رأس العين وعشرات المباني بما فيها مركز الدفاع المدني.بلدة العين كان لها نصيبها الكبير من القصف. خسرت البلدة 35 من أبنائها قضوا شهداء، والجرحى بالعشرات. الخسائر المادية كبيرة: 11 منزلًا مدمرًا بالكامل، 30 منزلاً غير صالح للسكن، فيما 300 من بيوتها بحاجة إلى ترميم جزئي. يصف علي يونس، ابن العين، ما تعرضت له بلدته بالمأساة، بل بالكارثة الكبرى. ويؤكد لـ"المدن" أن الأضرار طالت البيوت والبنية التحتية، وتسببت بالنزوح الكامل، مشيراً إلى اكتمال عملية صيانة شبكة المياه وأضرار الكهرباء. أما بما يتعلق بالبيوت المدّمرة فينتظر أصحابها ما ستفعله الدولة، كون التعويضات التي دفعها حزب الله لا تكفي لإعادة إعمارها.زبّود وبريتاللم يكن حال زبّود، البلدة الصغيرة الهانئة، أفضل من حال جاراتها بلدات وقرى شرقي بعلبك. مشاهد الدمار فيها مهولة، فبحسب ابنها علي مصطفى تعرضت البلدة لسبع غارات عنيفة، نتج عن إحداها مجزرة راح ضحيتها 17 شهيدا من عائلة واحدة من آل القاضي. ووصل عدد المباني المدّمرة كلياً إلى ثمانية تضم 13 وحدة سكنية، فيما تعرض 35 منزلاً لأضرار كبيرة أو جزئية، 14 منها غير صالحة للسكن.الهمجية الإسرائيلية طالت بلدة بريتال بعشرات الغارات المدّمِرة. وسقط في البلدة قرابة مئة شهيد، غالبيتهم استشهدوا في ثلاث مجازر. الخراب يلف أحياء البلدة. عشرات المنازل سوِّيت بالأرض ولا يزال ركامها شاهداً على هول الغارات. تقول ابنة البلدة خولة إسماعيل إن الكارثة أصابت بريتال بكاملها، إذ لا يخلو بيت فيها من شهيد أو جريح أو متضرر. وقد عاد النازحون الذين تضررت منازلهم بشكل جزئي إلى البلدة وعمدوا إلى ترميمها، بعدما دفع الحزب التعويضات. لكن الطرقات وشبكة المياه والكهرباء ما زالت صالحة، وقد عمدت البلدية إلى صيانتها قدر المستطاع.الشكوى من التعويضاتفي الجولة التي قامت بها "المدن" على البلدات تبدو الغصة والحسرة واضحتان على السكان. ويمكن تلمس عدم الرضى عن التعويضات بشكل واضح.أبو علي راضي ابن مدينة بعلبك، عاد إلى بيته بعد نزوحه القسري، ليجد طبقاته الثلاثة كومة ردم. يرفض أبو علي المسايرة والمجاملة قائلاً "أنا إنسان حُر مستقل، غير محسوب على أي فريق طائفي أو سياسي. من يُعَوِّض عليَّ بيتي وتعبي؟ ضاع كل جنى عمري . أرادوا التعويض عليّ بمبلغ 12 ألف دولار بدل أثاث وإيواء، هذا فيما ثمن أثاث بيتي كان بحدود 70 ألف دولار. لماذا عليّ أن أقبل دمار بيتي في حرب لم يستشرني بها أحد؟ يقولون إن الحزب سيدفع في حال لم تفعل الدولة. لكن الدولة مفلسة. فمن يدفع إذاً، ومتى؟ أنا وبيتي وعائلتي لسنا فداءً لأحد، لا اليوم ولا غداً. شبعنا حروباً وانتصارات، اليوم أعيش عالة على أخي. بتُّ همًّا فوق همومه، أقاسمه منزله ريثما يأتينا الفرج من الله وحده.من بعلبك إلى بلدة العين الشكاوى من التعويضات واحدة. ويقول رجل الأعمال أحمد دبوس: "خسرت كل شيء. تعبي كلّه تبخّر أمامي بثوانٍ. احترقت بضائع قيمتها نحو 273 ألف دولار بلمح البصر. وجزء من هذه البضائع ما زال ديناً في ذمتي. لقد أصبحت "عالحديدة". فكيف لمبلغ 12 ألف دولار أن يعوِّض خسارتي، ويساعدني على النهوض مجددًا".في بلدة بوداي التي تعرضت لدمار واسع ثمة عدم رضى عن حجم التعويضات أيضاً. ورغم أن ابنة البلدة عليا الحج قاسم تتجنب رفع الصوت بموضوع التعويضات إلا أنه يبدو واضحاً أنها متشائمة من الوضع القائم. وتقول: "الموضوع ليس بيدنا، بل بأيدي جماعة الحل والربط. هم أصحاب القرار وكلامنا لا يقدم ولا يؤخر".أما في بلدة البزالية فالسكان يعضّون على جرحهم بعد الخسارة التي منيوا بها. وبخلاف باقي المناطق حيث يعبّر الناس عن اعتراضهم على حجم التعويضات، يؤكد حسن البزال أن "هناك ضرورة لتكاتف الجميع، كي يصار إلى لملمة الجراح قدر المستطاع. حالياً الناس تحتضن بعضها البعض، وتعويضات الحزب تساعد في تخفيف المشكلة لكنها لم تحلّها. الناس تنتظر الدولة، والدولة غائبة أو مغيّبة".