"أفكّر
لا شيء سيحميني سوى الشِّعر
لا عيون الأصدقاء التي تتحوّل في لحظة صعف إلى عيون قوية واثقة
تحدِّق في عينيك الخائفتين
فارغة من كل عاطفة
إلا من فخر أستاذ ثانويّ
يروي بطولاته لتلاميذه
ولا شيء آخر
هكذا يرمونني بقصصهم
الذين لا قدرة لهم على تذكّر اسم شخص بادلوه القبل والحبّ في صباح اليوم التالي
هم فقط يقومون بتذكيري بأنّ العطب في حساسيّتي
أولئك أنفسهم الذين لا تريحهم إلّا عيناي الخائفتان".
أصدرت مؤخّراً الإعلاميّة نور خليفة ديوانها الأوّل "سيرك" عن دار النّهضة العربيّة. وفي باكورتها، تظنّ أنّها أوصلت صوتها وأكملت بدرها، لكأنّها الجائزة واللّمعة عليها لا تختفي، وهل هذا حقّاً؟ وتظنّ ربّما أنّها فضحت الظّلمة ووجدت المصباح اليدويّ والمغارة حولها هي الأمّ أو القبر أو رحمٌ ميّت. وقد نقول عن الصّوت أنّه وصل صدًى وعن أسد السّيرك أنّه ينام كثيراً وعن الفيل أنّه وعلى رأسه قبّعة الألوان لم يُضحك كما المهرّج الحزين ومعه وردة الخديعة. إن ديوان خليفة إنّما هو تسجيل لعرض سيرك طويل، قديم، يعاد كل صباح، كل ليلة، قهقهات الجمهور مكتومة فيه، حيواناته خائفة من الضّحك وتنظر إلى أجسادها، خُدعه اكتشافٌ للخدعة، والعرض يطول ويطول. ديوان خليفة الأوّل هو نظرتها الطّويلة والعميقة والخائفة إلى نفسها، إلى نفسها وهي المهرّج الحزين يضحك الأولاد ويشكر المحسنين ويتعب وحيداً ليصبح بعد العرض زهرة في وعاء. المخلّصة وثوبها من ضجيج وحرب
تشعر أنّها دي نيرو يخلّص فتاته من فساد العالم. تظنّ أنّك واحداً تقرأ، لتجد، بعد صفحات طويلة، أن أجزاء صغيرةً منك بقيتْ حيث شعرتْ بالدّفء، حيث وجدتْ زهرة بين كلمة وأخرى، أو عشّ عصافير فوق علامة استفهام، أو كرة عالقة لكأنّها النّقطة لكنّك ركلتها لأنّك ممتلئٌ براحة الشبّه، بسلام التّشابه.
إن خليفة رقيقة إلى حدّ امّحاء صوتها الجائع إلى العناق بين أسئلتها الطّويلة. وعينها السّاهرة، على تفاصيل الحكايا ورموز الاعتياد، لكأنّها تنظر كي تعود بغصنٍ، كي تعود بنجمة لسماء تأخّر طلاؤها فهي بيضاء، كي تعود ربّما بذكريات هي كالفقعات ووجها عالقٌ داخلها. رقّة خليفة، رقّة مفجوعة على خليفة نفسها، إذ تقول في قصيدتها "تلويح":
"هذا ما فعلَ الأحبّة
هذا ما فعل العدو
قتلوا طفلةً
هذا ما فعل الأحبّة
هذا ما فعل العدو
أردوا عروس الغد أشلاءً"
برقّة مفجوعة، تنقسم خليفة إلى اثنين: المخلِّصة والنّعجة الضّائعة، وهي لا تعرف ما هي هناك، لذا فلنقل: المخلِّصة والضّائعة.
وخلاص خليفة ليس إلّا خلاصاً لنفسها. هي التي تقول علانية، وتكتب الشِّعر، وتسأل بإصبع موجّهٍ وعين قنّاص وحدس الضّحيّة بعد الجريمة. وتظنّ خليفة أن الشِّعر يُصال به، يُرفع مع الفريق كالكأس والانتصار جماعيّ، خطٌّ مستقيمٌ لا يلتقي مع مصدره. وحين تكتب كذلك، تكتب للعالم بلغة بسيطة سهلة دافئة للذاكرة ككوب شاي وتلفاز وطقس ماطر. أما لها، هي المخلِّصة، فلغتها نفسها، خشنة حارقة لاذعة، فلغتها ليست الرّصاصة بل كبسولتها الفارغة المرتدّة عليها، وهذا شأن جميع المخلِّصين.
خليفة المخلِّصة، تعرف أنّها ليست من هذا العالم، لكنّها أيضاً لا تعرف لماذا أتت إليه. تقول في قصيدتها "على أيّ حال":
"بكامل حساسيّتي، أنزل إلى الشّارع.
أركضُ بوجهٍ أصفر كئيب
وجه لوّنهُ رسّامٌ بطلاء أصفر، ومحا كلّ ملامحه".
هي غريبة في العالم. هي الرّقيقة الفاضلة الحنون غريبة عن وحشيّة العالم ولما لا صبيانيّته. هي تواجه عنفه بشرنقة وأذيّته بشفتين مطبقتين علّهما ابتسامة النّهاية أو استراحة البركة. هي التي تواجه وحدها، لأنّها وحدها ترى كما ترى، وتفعل ما تفعله، وتصدّق أنّها ستصل ربّما إلى الغاية وربّما إلى مخرج بين شجرتَي كرز. هي التي تُخلِّص بسؤالها عن التّفاصيل المعتادة، عن الطّفولة الهاربة من حكاية إلى حكاية، عن ميكي ماوس على طريق المطار، عن العيش على غيمة والتدلّع على الله. خليفة المخلِّصة غريبة عن العالم وتسأل، تسأل عن كل شيءٍ لا كي تستفسر عن طبيعته أبداً، بل لتوجّه أنظارنا، نحن الذين لا يَصِلُنا صوتها، إلى الحقائق الصّغيرة كحبّات عقدٍ مقطوع، إلى الألم الذين ينعس فيصبح مللاً، إلى الأرض التي نمشي عليها ولا نعرف أننا ذاهبون إلى حتفنا.
الضائعة، كما تقولون، أنا الضائعة
"أنتظر نشرة الأخبار المسائيّة
لأسمع ما إذا كان سيُذكر اسمي في حدث ما!
هل تورَّطتُ في حادثة دهس؟
هل تورّطتُ في جريمة قتل
هل متُّ؟
أرفع صوتَ الرّاديو لسماع اسمي،
ربما يساعدني ذلك على فهم نهاري
ماذا سيذكر المذيع عني؟
كيف كنتُ؟
ماذا سيقول؟"
في هذا المقطع المجتزأ من قصيدتها "نشرة أخبار مسائيّة"، تقول لنا خليفة كفاية ما نريد أن نعلمه عن وجهها الثّاني، عنّها هي الضّائعة. وهذا الضّياع هو رقّتها المفجوعة تشكّ في نفسها. وهي الضّائعة وهي أيضاً المجهولة، المجهولة لذاتها أمام عينيها، والساقطة سهواً عن لسان العالم. وهذا الجَهل يصنع منها لغزاً، لغزاً أُجبر في أن يصير لغزاً، وحلقة مفقودة لا تربط طرفين، وسؤالاً لا ينتظر حتّى يُعطى إجابةً.
خليفة التي تجهل نفسها، تبحث عن آثارها، الحالية والقديمة. تنفض الغبار عن الذّكريات وتعيد ترتيب غرف أيّامها، تنظر تحت سريرها علّها تجدُ حلماً انزلق من مخدّتها، تفتّش في جيوب ثيابها علّها تجد طريقاً منسيّاً أو رسالة باسمها. خليفة تبحث عن دليل يساعدها على الوصول، على التقاط طرف الخيط والتّحليق خلف الطائرة الورقيّة. هي لا تميّز، إنّما تعرك بيديها الباردتين في أدلّة مشوّهة، في نتائج بلا أسباب، في خربطة مكانيّة وزمانيّة تحيط برأسها كدوار. تقول خليفة في قصيدتها "يجب أن تبقى":
"تخافينَ الأنياب الحادّة
ويداكِ ترتبكان في الحبّ
طفلة تركَتِ الغابة
وبدتْ لكِ الحياة كسكين
قولي لي
كيف فعلتِ ما فعلتِ
فتاة غبيّة؟
فتاة برية؟"
وخليفة الضّائعة، المرتبكة الحائرة، المتلعثمة في الدّفء والخاشية تحت المطر، تنتظر أن تُنقذ، أن يسحبها من يدها بطلٌ خارقٌ وينظر في عينيها بينما ينفجر العالم تحتهما. وهل لها ذلك؟ وهل تصل إليها ذاتها المخلِّصة، فمن لها سواها أن تخلّصها؟ وهل يصل النّداء كما يخرج، حائراً مرتبكاً خاشياً أن يمرّ الصّدى وينساه خلفه؟
وهل نلتقي؟
في حضرة اليوميّات، حيث لا يحدث إلّا الغريب كفاية بأن يصبح عادةً أو طبيعيّاً، تجلس خليفة المخلِّصة وخليفة الضّائعة في ذات الشّاعرة لأوّل مرّة. وهما صامتتان، كالأسد يستعدّ ليقفز داخل حلقة النّار، كالبهلوان على الحبل الرّفيع وتحت وادي الحذر. وهما صامتتان، تسبقهما الشّاعرة في خليفة لتقول لكليهما ولنا وللعالم بأسره كما تقول في يوميّاتها: "كل ما أريده الآن هو أن أتقيّأ البشر الذين قابلتهم اليوم. لا أن أكتبهم. تلك الجراثيم التي تلمحها لبرهة وتشعر أنك حامل بها. حملٌ بلا أمّ، بلا أب، وبلا إله!"