"هذا ما قرّرتُه في ذلك الصباح الرطب والملتهب (من شهر حزيران-يونيو 1976، عشية دخول القوات السورية إلى لبنان)، وهو الانتقال من الإذاعة إلى أحد المقاهي في الشارع القريب، من دون وجهة محددة. توجهتُ، بدايةً، إلى مقهى "الإكسبرس"، فنزلتُ تلك الدرجات القليلة لتفقُّد وجود أحد معارفِي فيه، سواء في باحته الخارجية أو الداخلية. ما إن وصلتُ إلى الساحة الرحبة، المنتظمة الطاولات والكراسي، حتى وجدتُ في أولى الطاولات، من جهتي، أستاذي أدونيس والفنانة الفلسطينية منى السعودي.
لم أتلقَّ دعوة للجلوس، لكنني جلستُ بتلقائية، بسبب الألفة بيننا. لكنني، ما إن جلستُ، وجدتُني في مكان غير مناسب، إذ كانت التعابير مشدودة، والكلام مقتضبًا، قاسيًا، من دون أن أفهم مغازيه الخفية. كان يبدو، في كلام السعودي، عتابٌ شديد، بل نقمة، فيما يبدو على أدونيس الاحتقان من دون كلام كثير. وقفَ أدونيس؛ اعتذرَ عن البقاء، لارتباطه بموعد عاجل، سابق، في جريدة "النهار" القريبة؛ ومضى من دون أن يُلقي التحية علينا.
وجدتُني أعتذر من منى لتدخلي "الفجّ" في لقائهما، في حوارهما الثنائي. طلبتُ المغادرة بدوري، لكنها أمسكتْ بيدي، ودعتْني إلى تصفح الجريدة، على الطاولة. كانت جريدة "الثورة" السورية، التي ما سبقَ لي الاطلاع عليها. سألتُ منى عمّا لي أن أطالعه فيها؛ دعتْني إلى تصفح الجريدة، في صفحتها الأخيرة: مقال لأدونيس في الزواية العليا للصفحة.
ما كنتُ أظنه أمرًا خاصًّا، أو سرّيًّا، بين أستاذي والنحاتة، كان قد بلغَ كثيرين، بمن فيهم نزار مروّة، الكاتب الشيوعي في جريدة الحزب اليومية.
بعد أيام على لقاء "الإكسبرس"، ظهر مقالٌ لمروة في صدر الصفحة الأولى يكشف فيه تعاقد أدونيس مع الجريدة البعثية السورية؛ لكن الأساس في مقاله كان لتوجيه النقد إلى "مجموعة الشعراء"، وإلى وقوفنا إلى جانب أدونيس، والإضراب من أجل دعوته للتعليم من جديد في "كلية التربية".
سيمضي وقتٌ كثير، قبل أن ألتقي من جديد -صدفةً- بأستاذي القديم".
(من الجزء الثاني من سيرتي الذاتية: "الخروج إلى الشارع"، دار المتوسط، ميلانو، 2023).