2025- 03 - 25   |   بحث في الموقع  
logo إيران ترتب بيتها الداخلي.. قبل التفاوض مع ترامب logo دمشق تستورد النفط الروسي.. أهون الشرور في الوقت الحالي logo الأمن العام السوري.. عقائديو إدلب وشبيحة اللاذقية الطائفيين logo الأدوار التركية في زمن ترامب logo وفد لبنان إلى سوريا: ترحيل "الترسيم والنازحين".. الأمن أولاً logo عن غارة قعقعية الجسر.. ماذا أعلنت وزارة الصحة؟ logo صور.. جريحان في إشكال فردي logo هل تورط سوريون بإطلاق "الصواريخ البدائية" على إسرائيل؟
عن ظاهرة الفصام بين العلم والدين
2025-03-23 10:55:52


يروي المفكّر المصريّ فرج فوده، في إحدى مقالاته، حكاية طالبة في السنة الخامسة في كلّيّة الطبّ كتبت إلى أحد الشيوخ الدينيّين تسأله إذا كان من المسموح فقهيّاً أن تخلع ثيابها أمام كلب ذكر. وينطلق فودة، الذي اغتاله أحد المتطرّفين بعد مضيّ بضعة أشهر على صدور هذه المقالة، من هذه الحادثة كي يحلّل ظاهرة الفصام لدى بعضهم بين الإقبال على العلوم الحديثة من جهة، والإدبار عن العقل في تعاطي شؤون الحياة من جهة أخرى.معضلة الدين مع العلم تكمن في أنّ العلم اقتطع مساحات كانت في الماضي تنتسب إلى نطاق الدين. أولى محاولات صوغ تفسيرات لا-دينيّة لظواهر الوجود بدأت مع رهط من الفلاسفة اليونان سبقوا سقراط مثل هيراقليط وطاليس وفيثاغوراس. وقد وضع هؤلاء إرهاصات المقاربة العلميّة بمعنى عدم ركونهم إلى التأويلات الميثولوجيّة للطبيعة محاولين استبدالها بفرضيّات تقوم على المراقبة. لئن تشعّب العلم وتكثّف حضوره مذّاك في حياتنا، إلّا أنّ هذه القاعدة لم تتبدّل: يستند العلم إلى المراقبة والتجربة والاستخلاص وصوغ الفرضيّات والتصحيح مستفيداً من "لغة" عقليّة نظريّة ترفده بها الرياضيّات.
لعلّ الحيّز الأبرز الذي يعكس الصراع بين الدين والعلم هو، بالإضافة إلى محاولة تفسير نشأة الوجود، نطاق الشفاء. فعلى قدر ما كان الطبّ يوسّع إلمامه بالأجسام الحيّة ويطوّر مناهجه وآليّات عمله، كانت الناس تقلّل من ذهابها إلى الكاهن أو الشيخ أو الرائي، وتقصد الأطبّاء كي تتداوى. ولئن أضحى الركون إلى الطبّ الحديث سمةً ثابتةً من سمات عصرنا، غير أنّنا رصدنا، إبّان جائحة كوفيد، استعادةً ملحوظةً لدى بعضهم لفكرة الاستشفاء لدى القدّيسين والأولياء على الرغم من أنّه غير خاضع لقاعدة الاختبار المتكرّر. ينتج من هذا أنّ جدليّة التوتّر بين العلم والدين لا تنتمي إلى الماضي فحسب، بل تتمتّع بحضور في الراهن أيضاً كائنةً ما كانت سعة هذا الحضور وعمقه.من النافل القول إنّ العلوم الحديثة غير قادرة على الإجابة عن كثير من الأسئلة التي يطرحها البشر. وثمّة من يحسب أنّ وظيفة العلوم تنحصر في تقديم أجوبة ناجعة عن الأسئلة التي تصنَّف في خانة "الكيف"، لا في خانة "اللماذا". ومن ثمّ، السؤال عن غاية الوجود ومعنى الحياة والتبصّر في جدوى الخبرات الإنسانيّة والتفكّر في التحدّيات الأخلاقيّة، هذا كلّه يتخطّى الجهد العلميّ الصرف. ربّما يكون هذا الزعم صحيحاً، لكنّه لا يستتبع البتّة أنّ الانزياحات التي تشهدها الساحة العلميّة يوماً بعد يوم لا مفاعيل لها على كيفيّة مقاربتنا شؤون الحياة، بما فيها تلك التي يحسبها الدين من اختصاصه. بخلاف ما عرّجنا عليه أعلاه، العلم هنا لا "يسرق" من الدين نطاقاً، لكنّه يستحثّ المتديّنين على أن يشحذوا إيمانهم بالسرديّات الدينيّة على مسنّ العقل النقديّ. فإذا أثبت المؤرّخون وعلماء الآثار، مثلاً، أنّ بعض التراث الدينيّ ينتسب إلى عالم الأسطورة، ما الفائدة من نكران ذلك كمن يدفن رأسه في الرمل؟
لعلّ هذا مربط الفرس في حكاية فرج فودة عن الفتاة التي تدرس الطبّ. طبعاً، المسألة لا تتعلّق بالتوتّر بين التاريخ والأسطورة، بل بقدرة العقل على تنظيم أمور الحياة بالارتكاز على معايير غير مستمدّة من منظومات قيميّة تنتمي إلى الماضي. بكلمات أخرى: التوتّر هو بين كثافة حضور العقل في الفرع العلميّ الذي تدرسه الفتاة، وضحالة حضوره في تنظيم علاقتها بالأشياء والكائنات من حولها. كيف يمكن للمرء أن يقيم حاجزاً بين حيّز عماده العقل وحيّز قوامه ثقة غير مشروطة بالمنظومات الغيبيّة؟ كيف لا يفضي به الفصام الناتج من عدم تناضح الحيّزين إلى الجنون؟ ربّما يكمن مفتاح فهم هذه الظاهرة في نظرة إلى العلم تعدّه مجرّد أداة منفصلة عن العقل ودوره في تنظيم المجتمع، وفي حسّ بالدين يراه مجرّد ترياق لظاهرة القلق الوجوديّ، التي أمعن سارتر في تحليلها. الثابت أنّ ظاهرة الفصام هذه موجودة فعلاً وتستحقّ التمحيص السيكولوجيّ. وهي تومئ بالتأكيد إلى واحد من الالتباسات التي لا تزال تحيق بالعلاقة بين العلم والدين. لعلّنا، هنا، أمام أحد أمضى هذه الالتباسات وأعمقها أثراً.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top