فيما تتابع شريحة واسعة من السوريين تطورات مسلسل "تحت سابع أرض"، والصراع الدائر فيه بين حيتان قطاع الصرافة الذي يمثّل غطاءً لنشاط تزوير الدولار، يظهر أحد أبرز حيتان هذا القطاع في سوريا، سابقاً -وربما حتى اليوم-، فؤاد عاصي، في موقف إشكالي بشوارع العاصمة دمشق.بطبيعة الحال، لسنا في وارد اتهام الرجل بالمسؤولية عن الانتشار الكثيف للدولارات المزوّرة في أسواق دمشق، قبل بضعة أسابيع. إذ لا يوجد ما يدل على أي رابط بينه وبين هذه القضية. لكن تلك مناسبة، للإشارة إلى استمرارية سطوة "المارد" المرتبط به، على سوق الصرافة والحوالات بسوريا: شركة "الهرم".خلال الأسبوعين الفائتين، توالت الإرهاصات التي تشي بولادة المعادلات الجديدة الحاكمة لقطاع من أكثر القطاعات توليداً للدخل والثروة، في سوريا المنهكة اقتصادياً، وذات القطاعات الإنتاجية الراكدة. إنه قطاع الصرافة والحوالات. إذ وبعد أسابيع من الحرية المطلقة، التي أُتيحت للناس بالعمل في هذا القطاع، من دون أي قيود، بدأت القيود تنبثق من رحم تبلور سطوة السلطة الجديدة الحاكمة في دمشق.
إذ شنّت دوريات أمنية تتبع لمحافظة دمشق، حملة على بسطات الصرّافين، وصادرت أموالهم. وكان يمكن ربط ذلك حصراً بغاية ضبط نشاط "البسطات" المثير للاستياء من جانب كثير من السوريين. لكن، بعد أيام، شنت الضابطة العدلية لمصرف سوريا المركزي حملة أخرى ضد المحال التجارية والأشخاص الذين يمارسون أعمال الصرافة والحوالات من دون ترخيص. وأشار بيان المركزي بهذا الخصوص، إلى مصادرة أموال مزوّرة، مطالباً "الإخوة المواطنين" بعدم التعامل مع أي جهة غير مرخصة. وكان لافتاً أن المصرف تلقى سيلاً من الانتقادات تعليقاً على هذا الإعلان، أشار فيها بعض المعلّقين إلى أن الإجراءات الأخيرة للمركزي تخدم مصالح شركات الصرافة والحوالات المرتبطة بنظام الأسد البائد، والتي لا تزال تعمل بقوة وبكل أريحية. من أبرزها بطبيعة الحال، شركة "الهرم" لفؤاد عاصي.وخلال الفترة ذاتها، أصدر المركزي قراراً فرض بموجبه شروطاً جديدة للترخيص، تخص شركات الصرافة والحوالات العاملة في شمال غرب سوريا. أبرز هذه الشروط، رفع سقف التأمين المطلوب من هذه الشركات، من 100 ألف دولار كحد أقصى سابقاً، إلى 1,250 مليون دولار. وفي حال عدم الالتزام، تفقد الشركة المعنية، ترخيصها القانوني. هذا الشرط، قرأه المعنيون بأنه يصب في صالح الشركات الكبرى العاملة في هذا المجال. فهو يعزّز قدرتها على احتكار وضبط السوق، لصالحها. هذه الاعتراضات ردّ عليها المركزي بصورة غير مباشرة، عبر تصريحات لمصدر لم يتم تسميته، ضمن المكتب الإعلامي، تحدث من خلال صحيفة "الحرية" الرسمية –"تشرين" سابقاً- عن ضرورة قيام المركزي بدوره المنوط به، في تنظيم قطاع الصرافة والحوالات، عبر مؤسسات مرخّصة وخاضعة للرقابة "حسب الأصول"، بصورة تحمي حقوق المتعاملين في ظل انتشار العملات المزوّرة، وحالات الاحتيال. ووفق المصدر، فإن المركزي يعمل على استصدار صك تشريعي يقضي بإعادة تنظيم قطاع الصرافة بشكل كامل.بطبيعة الحال، لا يعترض أحد على تنظيم قطاع الصرافة والحوالات في سوريا. فالفلتان الذي عمّ هذا القطاع خلال الأشهر الثلاثة الفائتة، لا يجوز أن يستمر على المدى المتوسط والبعيد. لكن العقدة تكمن في طبيعة المعادلات التي من المرتقب أن تحكم هذا القطاع، المثير لشهية "الحيتان" والمتنفّذين في سوريا. فنحن نتحدث عن حجم أعمال يومي يتراوح ما بين 3 إلى 7 مليون دولار. يرتفع في موسم رمضان، وما قبل عيد الفطر، إلى وسطي 10 مليون دولار يومياً.في عهد نظام الأسد، وتحديداً في العشرية الأخيرة، كانت المعادلات الحاكمة لهذا القطاع، أربع. الأولى: حيتان أعمال، شركاء لمتنفّذين يديرون شركات صرافة وحوالات مرخّصة تحتكر السوق، وتُفصَّل القرارات الناظمة لهذا القطاع على قياسها. المعادلة الثانية: تجرّيم أي نشاط بالصرافة أو تعامل بالدولار خارج قنوات المؤسسات المرخّصة المحصورة بـ"الحيتان" إياهم. المعادلة الثالثة: حجب الدولار عن عموم السوريين، وتسليمهم حوالاتهم بالليرة السورية حصراً، ليبقى الدولار متاحاً لهذه الشركات "ذات الحظوة"، لتتولى بيعه للتجار والمستوردين. المعادلة الرابعة: توفير الدولار لخزينة الدولة، عبر الحصول على جانب من إيرادات شركات الصرافة "ذات الحظوة" بالقطع الأجنبي، مقابل تسليم السوريين حوالاتهم بالليرة السورية، وبسعر أقل من السعر الحقيقي بكثير. وبذلك، كان الطرفان، الدولة ومن فيها من متنفّذين، و"حيتان" هذا القطاع، يموّلون أنفسهم على حساب أغلبية كبيرة من السوريين، تصل إلى نحو الثلثين، تعيش بصورة أساسية على حوالات أقاربهم في الخارج. وكانت حصيلة هذه المعادلات الأربع، إثراء فئة محدودة، مقابل انخفاض متواصل في القدرة الشرائية لغالبية السوريين.في ذلك العهد، كان جانب من السوريين يتحايل على قيود سلطة نظام الأسد عبر السوق السوداء، التي كانت توفّر بديلاً أكثر عدالة بكثير، من المؤسسات المرخّصة لـ"الحيتان". لكن ذلك كان وقفاً على مقدار المجازفة التي كان السوريّ مستعداً للإقدام عليها، في ظل حملات أمنية متكررة تستهدف الناشطين في السوق السوداء والمتعاملين معها. بعد سقوط النظام، تكشفت السوق السوداء في العلن وتوسّعت بصورة لم تشهدها سوريا منذ أكثر من نصف قرن. رافق ذلك الكثير من حالات الاحتيال وعدم الأمان في التعاملات. بالتوازي، استمر عمل شركات الصرافة التي كانت تحتكر السوق سابقاً، وأبرزها "الهرم" وشقيقاتها. بل وتوسع عمل هذه الشركات، التي بقيت مقصد شريحة واسعة من السوريين، الراغبين بتجنب المخاطرة باستلام عملات مزوّرة من بائعي الأكشاك والبسطات. وللمفارقة، واصلت "الهرم" وشقيقاتها العمل وفق بعض المعادلات القديمة. وأبرزها، تسليم الحوالات بالليرة السورية حصراً. هذه المرة، بذريعة عدم توفّر الدولار. وهي ذريعة غير مفهومة اليوم في ظل شح السيولة من الليرة، واضطرار السوريين لبيع مدخراتهم من الدولار لتمويل مشترياتهم الملحة.
ومع إجراءات الترخيص الجديدة التي فرضها المركزي، وامتناع شركات كانت مرتبطة بالنظام السابق عن تسليم الحوالات بعملتها الأصلية، تصبح المخاوف من إعادة استنساخ معادلات سوق الصرافة والحوالات في عهد النظام البائد، مشروعة.ونحن نقف على أعتاب صدور صك تشريعي لتنظيم قطاع الصرافة والحوالات، لا بد من الإشارة إلى كارثية استنساخ نماذج من قبيل "العجّان" أو "المقدم موسى"، التي يقدّمها مسلسل "تحت سابع أرض". هذه النماذج لا تخص نشاط تزوير الدولار فقط، بل تعني بصورة أهم، قصة التحالف الخطر بين حيتان قطاع الصرافة والحوالات وبين متنفّذي السلطة في عهد النظام البائد، وفق معادلات أرهقت السوريين لأكثر من عقدٍ من الزمن. ولا يجوز القبول باستنساخها مجدداً. ويكفي لطمأنة المتابعين بهذا الصدد، ألا تكون شروط الترخيص للمؤسسات المعنية في هذا المجال، صعبة، بصورة تؤدي إلى حصر السوق في قبضة أصحاب الملاءة المالية الضخمة القادرة على احتكاره. يجب إتاحة هذا القطاع لأكبر قدر ممكن من المتنافسين. وأن تبقى وظيفة السلطات مراقبة أي مخالفات متعلّقة بالتزوير أو الاحتيال.. لا أكثر.