صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب عبد الكبير الخطيبي ورهانات تأسيس سوسيولوجيا مغربية، وهو مؤلف جماعي ساهم فيه باحثون أكاديميون من المغرب والجزائر والعراق، متخصصون في علم الاجتماع والأدب واللغة والترجمة والفلسفة والتربية والتنمية والنقد الأدبي. ويضم الكتاب ست مقالات للمؤلفين المشاركين تبرز مساهمات عالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي وكفاحه في فترة ما بعد الاستعمار، ولا سيما من ناحية تخليص علم الاجتماع المغاربي من النزعات الاستشراقية.
من أجل علم اجتماع مغربي
الخطيبي كاتب متفرع الاختصاصات. أمّا تخصصه الأساسي، فهو علم الاجتماع، ويُعَد من مؤسسي السوسيولوجيا المغربية إلى جانب بول باسكون وغريغوري لازاريف ومحمد جسوس وفاطمة المرنيسي، وغيرهم. كان الخطيبي يطمح إلى تأسيس مدرسة مغربية في علم الاجتماع منزوعة من الاستشراق في مرحلة ما بعد الاستعمار، وهو ما يمثّل غاية سياسية في واقع الأمر، وقد اقتضاه ذلك تفكيك التمركز حول المنطق الذاتي والعرقية أولًا، والعمل على نقد المعرفة والخطابات التي أنتجتها مجتمعات العالم العربي عن ذاتها ثانيًا، وكان يطمح، مع زملاء سوسيولوجيين مغاربة، إلى بناء معرفة حقيقية عن المجتمع المغربي المقاوِم للتحليل النقدي بشدة، وإكسابه مجالًا لحرية العقل وممارسته في الفكر السوسيولوجي، فتتلمذ عليهم عبد الله حرزني وعبد الله حمودي وأحمد زوكاري، وغيرهم ممن أنجزوا تحقيقات غنية؛ بخصوص الشباب والنخب والطبقات الاجتماعية والتخلف والتحولات الاجتماعية والفساد والرشوة. وقد برع الخطيبي في الشعر والرواية والنقد الأدبي والفني، وتأثر بالسيميائية ودلالاتها ومفاهيمها فسخّرها لخدمة الثقافة المهمشة في التراثين العربي والإسلامي. وكان يعشق الألوان، فاهتم بتحليل الزربية (السجاد المغربي) والوشم والكاليغرافيا والرسم التقليدي واللوحة التشكيلية، وأنجز دراسات وأبحاثًا متعلقة بالسرد الشفهي والأمثال الشعبية والجسد في الإسلام. وكان أدبُه شموليًّا يتقاطع مع مجموعة حقول، ويعانق أسئلة المعرفة الإنسانية الرحبة والعميقة، ولا عجب أن وصفه جاك دريدا بـ "النموذجي". كوَّن الخطيبي صداقات فكرية وإنسانية مع أعلام بارزين من أمثال رولان بارت، وجاك دريدا، وجان جينيه، ومحمود درويش، وأدونيس، وعبد الوهاب مؤدب، وجاك حسون، وغيرهم.
مساهمات
هذا المؤلَّف الجماعي مساهمات اقترحها أكاديميون وباحثون من المغرب والجزائر والعراق لمقاربة مساهمات الخطيبي في تأسيس سوسيولوجيا مغربية، وتناولوا الموضوع من زوايا نظرٍ مختلفة في محاولة للكشف عن بعض معالم مشروع الخطيبي السوسيولوجي، مفتتحين الكتاب بمقالتين، للخطيبي نفسه، الأولى هي "الرغبة في علم الاجتماع"، وفيها يتحدّث عن بدايات تعرّفه إلى علم الاجتماع في المرحلة الثانوية مع كتاب فريدريك كوفيلييه، ثم تدرّجه في هذا العلم حتى حصوله على الدكتوراه في السوربون وعودته إلى المغرب، إضافة إلى التحديات التي واجهها بعد تولّيه إدارة معهد السوسيولوجيا عام 1966. أما المقالة الثانية، فهي "النقد المزدوج"، وتتضمن تدوينًا مترجمًا إلى العربية أنجزه مراد الخطيبي لعرض شفهي لعبد الكبير الخطيبي من خلال شريط آلة تسجيل عثر عليه نور الدين الزاهي ضمن أرشيف "الجمعية المغربية لمدرّسي الفلسفة"، وقد سعى فيها الباحث إلى إبراز أهم سمات "النقد المزدوج"، الذي اعتبره آليّة ومنهجًا ضمن مشروعه الفكري الذي وضع أسسه الأولى في سيرته الذاتية الذاكرة الموشومة المنشورة عام 1971.
يقارب مصطفى محسن في أولى مقالات المساهمين أهم خصائص الدرس النقدي عند الخطيبي، وبدايات مساره الفكري والإبداعي الغني والمتنوع، ويتحدث فيه عن أوجه الصداقة الفكرية والإنسانية التي كانت تجمعه بالكاتب الكبير.
ويتحدث مصطفى خُلال من جانبه عن إعادة تشكّل الوعي عند الخطيبي، وتعدّد مجالات اشتغالاته العلمية، ويكشف للقارئ مشروعًا فكريًّا واضح المعالم يوحّد مؤلفات الخطيبي الإبداعية والفكرية، ما يجعله من أبرز المفكرين والباحثين المغاربة.
أما الباحث محمد معطسيم، فكانت مساهمته حول سمات سوسيولوجيا الجيل المؤسِّس المغربية الذي ينتمي إليه الخطيبي وباسكون وجسوس، وغيرهم، وكذلك سمات الجيل الثاني الذي ينتمي إليه مصطفى محسن وعبد الجليل حليم وعبد الصمد الديالمي، وغيرهم. ويتناول الفصل أيضًا تصوُّرَ الخطيبي ومحسن لعالم الاجتماع النموذجي.
ويهتمّ الباحث نور الدين الزاهي بإشكالية ولادة الخطيبي، وارتباطها بعيد ديني؛ هو عيد الأضحى، مركِّزًا على كتاب الخطيبي الشهير الاسم العربي الجريح.
ويتناول الباحث العراقي حيدر الحاج أهم معالم مشروع الخطيبي الفكري والأدبي، مبيِّنًا استمداده أسسه النقدية من فكر الاختلاف، ومركِّزًا على تصوّر الخطيبي إشكالية الهوية من خلال سيرته الذاتية الذاكرة الموشومة. ويعرض الباحث أيضًا لمفاهيم وإشكاليات عدة تناولها الخطيبي، مثل "النقد المزدوج" و"الغيرية" و"الهامش" و"الأنا" و"الآخر".
وتُعنى الباحثة الجزائرية وسيلة مجاهد باهتمام الخطيبي بالرواية المغاربية، وخصوصًا الرواية الجزائرية، من خلال دراسته العلمية الرواية المغربية Le Roman Maghrébin التي نشرها عام 1968، مقارِبةً الموضوع من زاوية سوسيولوجية، ومركزةً على سمات النقد الأساسية عند الخطيبي، خصوصًا في قراءته الرواية الجزائرية وتحليله إياها.
عبد الكبير الخطيبي
روائي مغربي وعالم اجتماع متخصّص في الأدب المغاربي. درس علم الاجتماع بجامعة السوربون، وفيها قدّم مشروع كتابه الشهير الرواية المغاربية Le Roman Maghrébin. أصدر عام 1971 روايته الأولى الذاكرة الموشومة La Mémoire Tatouée. كتب عن المجتمعات والفن الإسلاميين، وتحدى المعايير الاجتماعية والسياسية التي بُنيَ عليها المغرب العربي. تميّز إنتاجه العلمي بالتعدد والتنوع، فعمل أستاذًا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، وأستاذًا مساعدًا، ثم مديرًا لمعهد السوسيولوجيا السابق بالرباط، فمديرًا لـ"المعهد الجامعي للبحث العلمي"، ومديرًا لـ "الحوليات المغربية لعلم الاجتماع"، ورئس تحرير لـ"النشرة الاقتصادية والاجتماعية للمغرب" BESM، وكان مدير مجلة "علامات الحاضر"، وله مساهمات في الشعر والرواية المسرح. اهتم في إنتاجه الأدبي بتحليل النُّظم الثقافية المادية والرمزية، وممارسة النقد المزدوج للتراث ولمعرفة الآخرين، ويظهر ذلك بوضوح في أعماله التي تنوَّعت بين القصة والشعر والرواية والمسرح والنقد الأدبي والاجتماعي. ومن أبرزِ هذه الأعمال: رواية "الذاكرة الموشومة" ١٩٧١، و"فن الخط العربي» ١٩٧٦"، و«المناضل الطبقي على الطريقة التاوية» ١٩٧٦، و«صور الأجنبي في الأدب الفرنسي» ١٩٧٦، و«مسرحية النبي الخفي» عام ١٩٧٩، ورواية «صيف في ستوكهولم» ١٩٩٠، و«الرواية المغاربية» ١٩٩٣، و«المغرب أفقًا للفكر» ١٩٩٣، وغير ذلك من الأعمال الإبداعية والأكاديمية التي نالت إشادةً كبيرةً في الأوساط الأدبية والأكاديمية العربية والغربية.
حصل على العديد من الجوائز، أبرزُها جائزةُ الأدب في الدورة الثانية لمهرجان «لازيو بين أوروبا والبحر الأبيض المتوسط» في إيطاليا عن مجملِ أعماله الأدبية، ولمساهمته في خلقِ لغة أدبية وطنية مستقلة في مجال العلوم الاجتماعية، وجائزةُ «الربيع الكبرى» التي تمنحها جمعيةُ «أهل الأدب» الفرنسية.
رحل عن دنيانا في ١٦ مارس عام ٢٠٠٩ عن عمرٍ ناهزَ ٧١ عامًا.