تعتبر إعادة بناء المؤسسة العسكرية في سوريا، بعد حلّها وتفكيكها من قبل رأس النظام البائد قبيل فراره إلى موسكو، من أكبر التحدّيات المعقّدة التي تفرضها الظروف الراهنة، فضلاً عن التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه سوريا. ومع ذلك، فإنها تُمثّل إحدى أهم الخطوات نحو تحقيق الاستقرار، وبسط الأمن، وإرساء سلام مستدام في بلد أنهكته الحرب، واستنزفت موارده على جميع الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية. كما أسهمت تلك الحرب في تمزيق النسيج الاجتماعي، وخلّفت انقسامات عميقة بين مكوّناته، مما يجعل إعادة بناء الجيش السوري الجديد ضرورة مُلحّة، بل من أهم الاستحقاقات الراهنة.ولعلّ هذه الخطوة تلبّي تطلعات الشعب السوري في جيش يعكس القيم الوطنية والأخلاقية والثقافية، ويمثل كافة أطيافه ومكوناته. غير أن هذه العملية ليست باليسيرة كما قد يظن البعض، إذ تتطلّب مراعاة السياق الفريد للوضع السوري، والتحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، لضمان تأسيس جيش وطني حقيقي قادر على حماية سيادة الدولة.إعادة هيكلة الجيشإن إعادة هيكلة الجيش السوري الجديد ليست مجرّد مسألة عسكرية، بل تُعدّ ركيزة أساسية لإعادة بناء الدولة السورية على أسس من الاستقرار والشفافية. وتستلزم هذه العملية منهجية شاملة ومتعدّدة الجوانب، تأخذ في الاعتبار التنوع الثقافي والوطني للشعب السوري، وتُركّز على تفكيك الولاءات السياسية والطائفية داخل المؤسسات العسكرية.ولتحقيق ذلك، ينبغي وضع قوانين صارمة تمنع تدخل القوى السياسية في الجيش، والتأكيد على أن يكون الجيش مؤسسة وطنية لا تخضع لأي حزب سياسي أو طائفة. كما يجب إنشاء برامج تدريبية لتطوير مهارات الجنود والضباط، وتحديث استراتيجياتهم وفقاً لأخلاقيات العمل العسكري والمعايير الدولية، مع احترام حقوق الإنسان.كما يجب أن يعكس الجيش السوري الجديد التنوع الموجود في المجتمع السوري، بما يضمن تحقيق المساواة والعدالة، ويعزّز الوحدة الوطنية، ويمنع أي احتكاك داخلي. ويجب أن يكون قادراً على حماية البلاد. ولتحقيق ذلك، لا بد من ردّ الاعتبار لكافة المنشقّين عن جيش النظام من ضباط وضباط صف وجنود، وإعادتهم ليكونوا النواة الأساسية والعمود الفقري لهذا الجيش. كما ينبغي وضع آلية مدروسة لدمج الفصائل العسكرية المعارضة في الجيش الجديد بعد تدريبها وتأهيلها وفق معايير عسكرية حديثة، لضمان الحدّ من انتشار السلاح والانقسامات.تحديات وفرصبعد أكثر من عقد من الحرب، يواجه الجيش السوري والقوى الأمنية تحديات كبيرة تتعلّق بالانقسامات الداخلية، والتدخلات الخارجية، وغياب الثقة بين مختلف مكوّنات المجتمع. لذا، فإن أي عملية لإعادة بناء الجيش السوري كمؤسسة وطنية محترفة يجب أن تستند إلى معايير الجيوش الحديثة، وتقوم على مبادئ المهنية والحياد. كما ينبغي تضمين الدستور الجديد قوانين تنظّم دور الجيش وعلاقته بالسلطة التنفيذية، وتضمن عدم تدخّله في السياسة، مع وضعه تحت رقابة البرلمان لضمان المساءلة والشفافية، والالتزام بالقوانين الدولية.مع ذلك، تواجه هذه العملية العديد من التحديات الناجمة عن تعقيدات الوضع السابق، ومن أبرزها:
1. دمار البنية التحتية العسكرية التي تعرّضت لأضرار جسيمة بفعل الحرب، مما يستلزم إعادة بناء شاملة تتطلب استثمارات ضخمة.
2. تعدد الفصائل المسلحة واختلاف مرجعياتها السياسية وتوجهاتها الفكرية والأيديولوجية.
3. الانقسامات الطائفية والإثنية والسياسية التي كرّسها حكم الأسد بشطريه (الأب والابن).
4. التدخلات الخارجية التي قد تعرقل أي محاولة لبناء جيش مستقل.
دروس من تجارب دول أخرى:مرت العديد من الدول بتجارب مماثلة في إعادة بناء جيوشها بعد النزاعات، ويمكن لسوريا الاستفادة من هذه التجارب. فعلى سبيل المثال، أعيد بناء الجيشين الألماني والياباني بعد الحرب العالمية الثانية على أسس جديدة جعلتهما مؤسستين محترفتين خاضعتين لسلطة مدنية. كما شهدت البوسنة والهرسك عمليات دمج لقوات متصارعة ضمن جيش موحد بعد نزاع التسعينيات، وتمكّنت رواندا من إعادة هيكلة جيشها بعد الإبادة الجماعية، ليصبح قوة استقرار وليس أداة صراع.وللاستفادة من تلك التجارب، يمكن اعتماد معايير تضمن بناء مؤسسة عسكرية متماسكة تعمل كدعامة أساسية لتعزيز الأمن والاستقرار، وتساهم في بناء الثقة بين الجيش والشعب، مما يمهّد لاستقرار طويل الأمد. ومن هذه المعايير:
1. ضمان التمثيل العادل لجميع مكونات المجتمع السوري في الجيش الجديد، ليعكس التنوع الثقافي والاجتماعي للبلاد.
2. توحيد الجهود العسكرية تحت مظلة الدولة، عبر دمج جميع الفصائل المسلحة ضمن هيكلية الجيش، وتنفيذ برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، لضمان انتقال سلس للمقاتلين إلى الحياة المدنية أو العسكرية المنظمة، وفق المعايير المهنية.
3. صياغة عقيدة عسكرية جديدة تعكس القيم الوطنية، وتلتزم بالحياد والاستقلالية، بعيدًا عن التجاذبات السياسية والطائفية.
4. تعزيز المهنية والتدريب العسكري، وتوفير التكنولوجيا الحديثة، وتزويد الضباط والجنود بالمهارات اللازمة لحماية الدولة والدستور، مع ضمان معايير مهنية عادلة في اختيار الجنود والضباط.
5. ضمان الشفافية والمساءلة عبر وضع آليات رقابية صارمة لمنع الفساد، ومحاسبة أي انتهاكات أو تجاوزات داخل المؤسسة العسكرية، وإدخال مفاهيم جديدة مثل حفظ السلام، مكافحة الإرهاب، وإدارة الأزمات.
6. فرض رقابة مدنية على الجيش، بحيث يكون خاضعًا للسلطة التشريعية ويعمل في إطار القانون والدستور، مع الالتزام بالقانون الدولي لحقوق الإنسان.
نحو مستقبل أكثر استقراراًإعادة بناء الجيش السوري ليست مجرد خطوة تقنية، بل هي حجر الأساس في إعادة إعمار سوريا وضمان مستقبل أكثر استقراراً. فالجيش الجديد يجب أن يكون قوة لحماية السيادة الوطنية، وليس أداة لقمع الشعب أو الانخراط في النزاعات الداخلية. ونجاح هذه الجهود يعتمد على إرادة سياسية صادقة، تعاون دولي داعم، وثقة داخلية بين المؤسسة العسكرية والمجتمع.في نهاية المطاف، فإن بناء جيش وطني قوي سيكون ركيزة أساسية لاستعادة الأمن، وإعادة الشعور بالانتماء إلى دولة موحدة يسودها القانون والعدالة، بعيدًا عن الصراعات والانقسامات.