"إعادة إعمار ما تهدّم"، كلّ مَن كان يُشاهد الجلسة الوزاريّة الاستثنائيّة في ثكنة "بنوا بركات" في صور، في السّابع من كانون الأوّل الفائت، قد تأمّل خيرًا بأنّ المصائب والفظاعات الّتي اختبرها اللّبنانيون على مدار 13 شهرًا وصلت إلى خواتيمها، وأنّه ربّما أمسكت أخيرًا الدولة اللّبنانيّة بزمام المبادرة، وانطلقت في ورشة النهوض بالبلد المكلوم. لتتحوّل هذه الآمال، وبعد أشهر قليلة فقط، إلى حالةٍ من الهلع الشعبيّ، إزاء الوعود التي لم تتحقّق بعد.
تشهد السّاحة اللّبنانيّة راهنًا مداولاتٍ شاقةً ترتبط بملفّ إعادة إعمار المناطق الّتي هدمها العدوان الإسرائيليّ الأخير. يأتي ذلك في مناخٍ ملبّدٍ بالأزمات الماليّة والاقتصاديّة والسياسيّة الحادّة، وفي ظلّ انهيارٍ مؤسّساتيٍّ قلّ نظيره في تاريخ لبنان الحديث. ومع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ صباح الأربعاء في 27 تشرين الثاني، والمصادقة على مشروع مرسومٍ يُحيل قانون إعادة الإعمار إلى مجلس النوّاب، بدا واضحاً أنّ التحرّك الرسميّ، رغم عجلته، يكتفي بمعالجة الإطار العمرانيّ للهدم. بيد أنّ واقع التعافي الوطنيّ وإعادة النهوض يقتضيان مقاربةً أشمل وأعمق، تفاديًا لتكرار إخفاقاتٍ سابقة وقعت بعد حروبٍ متتالية.
ورغم الحاجة الماسّة لخطةٍ مستعجلة لإعادة البناء، فإنّ تشابك السلطات وتعدّد الأطراف المعنيّة، إلى جانب تضارب المصالح وغياب خططٍ وطنيّةٍ متكاملة، ينذر بتحويل مسار الإعمار إلى نسخةٍ جديدةٍ من التجارب السابقة الّتي اقتصرت على ترميم الحجر دون البشر، فخرجت بنتائجٍ قصيرة الأمد على حساب التنمية الحقيقيّة. ومَن يُمعن النظر في التاريخ الحديث للبنان يلاحظ بوضوح كيف ظلّت الخطط التنمويّة الكبرى أسيرة الحسابات السياسيّة والزبائنيّة، بينما جرى إغفال الحاجات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الأساسيّة للفئات الأكثر ضعفًا.الخسائر وواقع المساعداتأجرى البنك الدوليّ تقييمًا أوّليًّا قدّر فيه الخسائر التي أصابت لبنان جرّاء العدوان الأخير بنحو 8.5 مليارات دولار على امتداد ثلاثة عشر شهرًا، بينها 3.2 مليارات مرتبطة بالأضرار التي طالت القطاع السكنيّ (ما يُقارب مئة ألف منزلٍ تضرّر جزئيًّا أو كليًّا)، و3 مليارات مرتبطة بالزراعة وسلاسل التوريد وتعطّل التجارة. كما دفع النزوح الواسع بحوالى 1.3 مليون شخصٍ إلى ترك منازلهم، فيما فقد نحو 166 ألف عامل وظائفهم. لكنّ بعض المؤسّسات البحثيّة المحليّة تشكّك في هذه الأرقام، مرجّحةً أن تكون الأضرار الفعليّة أضعاف التقديرات الرسميّة والدوليّة. وهناك تقارير تشير إلى أنّ الأضرار في القطاع السكنيّ وحده لامست 4.260 مليارات دولار، أي ما يعادل ضعف ما تكبّده لبنان إبّان حرب تمّوز عام 2006.
هذه الأرقام لا تكتسب خطورتها من حجمها الماديّ فحسب، بل من وقوعها في سياقٍ أشدّ تعقيدًا. ففي حرب تمّوز، ورغم هول الكارثة حينها، نجح لبنان في استجلاب مساعداتٍ عربيّةٍ ودوليّةٍ وازنة ساهمت في التخفيف من عبء إعادة البناء، بينما تشي التطوّرات الحاليّة بشحٍّ حادٍّ في التدفقات الماليّة الخارجيّة. يعود هذا إلى أنّ مقوّمات الدولة اللّبنانيّة باتت منهارةً على نحوٍ شبه كامل، في ظلّ غياب الثقة الدوليّة والأهليّة بالأداء الرسميّ، وتُضاف إليه الأزمات الماليّة والنقديّة القائمة. وبذلك لا يلوح أيّ مؤشرٍ واقعيٍّ لاستقطاب منحٍ سخيّة كالتي شهدها البلد عام 2006.بنود القانون المقترح وعيوبه البنيويّةينصّ مشروع القانون الذي قُدِّم بناءً على اقتراح وزير الأشغال العامّة والنقل آنذاك، على بنودٍ استثنائيّة تسهّل إعادة بناء الأبنية المهدّمة جرّاء العدوان الإسرائيليّ. ففي المادّة الأولى، أُجيز للمالك إعادة بناء ما تهدّم وفق ما كان عليه من قبل، مع استثناء الأجزاء المعتدية على الأملاك العامّة أو الخاضعة للتخطيط الرسميّ. كما تُمنح إعفاءاتٌ من مختلف الرسوم والطوابع الماليّة، بما في ذلك رسوم نقابتي المهندسين، شرط ألّا يشمل الإعفاء أيّ مساحاتٍ إضافيّة غير مسموحٍ بها في قانون البناء. فيما تنصّ المادّة الثانية على إمكانيّة إعادة بناء المباني المخالفة شريطة خضوعها لقانون تسوية مخالفات البناء رقم 139/2019، مع ضرورة دفع الغرامات والرسوم قبل الحصول على رخصة الإسكان النهائيّة، واستثناء المباني المشيّدة على أملاك الغير. يُضاف إلى ذلك أنّ دوائر التنظيم المدنيّ ستحلّ محلّ إجراءات الترخيص التقليديّة عبر اعتماد "ملفّ إعادة بناء" مرفقٍ بإفادةٍ عن الهيئة العليا للإغاثة أو مجلس الجنوب تُثبت أنّ الأضرار نتجت عن العدوان الإسرائيليّ.
ويرى مراقبون أنّ المشروع يبدو نسخةً منقّحة عن القانون السابق الذي صدر بعد ثماني سنواتٍ من حرب تمّوز لتسوية أوضاع المباني المخالفة، خصوصًا في الضاحية الجنوبيّة لبيروت. والمفارقة الأساسيّة أنّه لا يزال يتبنّى نهج المعالجات الجزئيّة، إذ يوسّع عمليًّا باب التسوية لمخالفات البناء، من دون التطرّق إلى إشكاليّاتٍ مركزيّة كالمباني التي تقع على أملاكٍ عامّة أو أراضٍ أميريّة، أو يعالج قضيّة المستأجرين في المباني المتهالكة، أو يحدّد آلياتٍ عادلةً لتوزيع التعويضات.التعافي الشامل أوسع من ترميم الأبنيةإنّ مَن يقرأ تجارب الإعمار السابقة، بدءًا من إعادة بناء الضاحية الجنوبيّة عام 2006 وصولًا إلى إصلاح أحياء بيروت بعد تفجير المرفأ عام 2020، يدرك أنّ مجرّد ترميم الهيكل الخارجيّ للمنازل لا يضمن تعافيًا حقيقيًّا للشرائح المتضرّرة. ما يحتاجه الناس هو معالجةٌ متعدّدة الأبعاد تشمل ضمان حقوق المستأجرين، وتوفير إطارٍ تمويليٍّ واضحٍ للمالكين الذين فقدوا مصادر دخلهم، وتأمين البنى التحتيّة الأساسية (شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحّيّ)، فضلًا عن تحصين الأسواق الشعبيّة والحدائق والمساحات العامّة التي غالبًا ما تُهمَل في القوانين الاستثنائيّة.
في هذه النقطة، تُحذّر المهندسة والمتخصّصة بالتخطيط الحضريّ والأستاذة الجامعيّة سهى منيمنة، في حديثها إلى "المدن" من أنّ "إعادة الإعمار تتطلّب رؤيةً تتجاوز البناء الماديّ. فالحاجة ملحّة إلى توفير بنية تحتيّة تواكب المستجدّات واستخدام تقنياتٍ مستدامة تسمح بإمدادات كهربائيّة جديدة، والاستفادة من حلولٍ مبتكرة للطاقة والمواصلات". وترى أنّه "لا يمكن اختزال المسألة بعودة الأسر إلى منازلها وحسب، إذ ينبغي التأسيس لمساراتٍ تضمن بقاء هذه الأسر في بيئةٍ سليمةٍ ومهيّأة للنموّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ".مخاطر قانونيّة واجتماعيّةوتلفت سهى منيمنة، في سياق حديثها إلى الجهات الّتي تشيّد عشوائيًّا، وتتحدث عن نوعين من المخالفين: "الأوّل ناجمٌ عن حاجةٍ للناس، إذ لم تُلبَّ طلباتهم ضمن الإطار القانونيّ، فاضطرّوا إلى البناء بطرقٍ غير قانونيّة لعدم توفّر الموارد أو البدائل، ما يدفعهم إلى البناء العشوائيّ. أمّا النوع الثاني، فهو البناء في مشاريع أو أراضٍ زراعيّة، يقوم به أشخاصٌ يمتلكون رساميل كبيرة ويسعون إلى توسيعها عبر هذه المخالفات. هنا تكمن المشكلة الفعليّة؛ إذ لا بدّ من رقابةٍ وتصنيفٍ للأراضي يأخذ في الحسبان الثروات البيئيّة والاجتماعيّة. لدينا خططٌ وجزئياتٌ متقدّمة، لكنّها لم تُفعَّل بعد، فنحتاج إلى ضوابطَ تضمن توافق الإعمار مع تلك الخطط، كي لا يستمرّ البناء العشوائيّ. في الوقت نفسه، ينبغي توفير بدائل للفئات الضعيفة التي لا تملك خيارًا سوى المخالفة".
في المقابل، يتساءل كُثُر عن موقف الدولة من التعامل مع الدمار الذي طال مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين، والمناطق المبنيّة على أراضٍ أميريّة تُدار بعُرفٍ شعبيٍّ أو عائليّ، فضلًا عن واقع اللاجئين السوريّين الذين وجدوا أنفسهم في أماكن سكنيّة هشّة لا تخضع لتنظيمٍ رسميّ. وإذا كانت حرب تمّوز قد تركّزت بمعظمها على الضاحية الجنوبيّة وبعض قرى الجنوب والبقاع، فإنّ العدوان الأخير طاول مناطق حضريّة راسخة ومخيّماتٍ وأراضيَ زراعيّةً على امتداد الخريطة اللّبنانيّة، ما يستلزم حلولًا متعدّدة الطبقات لا يراعيها مشروع القانون الحاليّ.
في هذا الصدد، تُشير منيمنة إلى مبادرةٍ يتم العمل عليها بين مجموعةٍ من الخبراء والقطاع الخاصّ وبعض البلديّات والنقابات: "نحاول إنشاء إطارٍ تشاركيٍّ يجمع كلّ الفاعلين الرسميّين وغير الرسميّين، حتى مَن هم في مواقع حزبيّة، بغية توحيد الرؤية والمبادئ المتعلّقة بإعادة الإعمار. والهدف هو قطع الطريق على أيّ هيمنةٍ سياسيّةٍ ضيّقة، وإرساء شفافيّةٍ ولو بحدّها الأدنى". وتلفت إلى أهميّة بلورة مبادئ واضحةٍ لاعتمادها من قبل أكبر عددٍ ممكن من المختصّين والبلديّات، كي لا يبقى القرار برمّته رهينة الميزان الطائفيّ والمصالح الخاصّة.
وتشدّد منيمنة على "ضرورة التعاون مع البلديّات بوصفها جهةً رسميّةً على الأرض، رغم واقعٍ تحكمه سيطرة أحزابٍ طائفيّة، إذ لا يمكن عزل تلك الأحزاب بالمطلق إذا أُريد تنفيذ المشاريع". لكنّها ترفض التسليم بخضوع العمليّة برمّتها لسطوة قوى الأمر الواقع، وتقترح "رقابةً مدنيّةً وإعلاميّةً تكفل شفافيّة التمويل والمشاريع، وتضمن وصول الحقوق إلى المستحقّين".عملية الإعماريثير تمويل إعادة الإعمار تساؤلاتٍ حسّاسة، خصوصًا أنّ القنوات الرسميّة لم تعد تتمتّع بمصداقيّةٍ كافية. تاريخيًّا، يشهد لبنان كيف أدّت مساعداتٌ خارجيّةٌ سابقةٌ إلى تعزيز شبكاتٍ زبائنيّةٍ خدمت نفوذًا سياسيًّا محدّدًا، بدل أن تُوظَّف في مشاريعٍ إنمائيّةٍ عادلة. كما يُخشى أن يشترط المموّلون الدوليون برامج تقشّفٍ صارمةٍ تُرهق الفئات الشعبيّة أكثر. كما لم يحدّد القانون المقترح آلياتٍ واضحةً لمسح الأضرار أو تحديد المستحقّين للتعويضات، ما يخلق بيئةً خصبةً للفساد أو الاستنسابيّة، إذ قد تستأثر جهاتٌ حزبيّةٌ أو أفرادٌ مقرّبون من دوائر السلطة بالنصيب الأكبر من المساعدات، فيما يُترك الآخرون للمبادرات الفرديّة أو الخيريّة. حيث تكمن أهميّة المحاسبة في أنّها الضمانة الوحيدة لعدم تكرار فوضى إعادة الإعمار في مرفأ بيروت، حين تشابكت الجهات الدوليّة والمنظّمات الأهليّة والأحزاب في سباقٍ غير منسَّقٍ فغابت المعايير الوطنيّة. لذلك تبرز الحاجة الملحّة لإنشاء هيئةٍ حكوميّةٍ أو وطنيّةٍ مستقلّةٍ نسبيًّا تتولّى رصد التمويل وتوثيق الخسائر والإشراف على التوزيع، على أن تتمتّع بصلاحيّاتٍ واضحة، ويحظى عملها برقابةٍ مدنيّةٍ وصحفيّة متواصلة.
وتشدّد منيمنة، في هذا السّياق على الحاجة الملحّة "لوجود وزارةٍ للتخطيط أو جهازٍ رفيع المستوى يعالج مسائل الأراضي والإعمار من منظورٍ استراتيجيّ. فنحن نحتاج إلى خططٍ بعيدة المدى لا تنحصر في نزع الأنقاض وترميم الهياكل فقط، بل تضع قواعد للانتفاع المشترك من الأراضي وتمنع المصالح الخاصّة من ابتلاعها بحجّة إعادة البناء". وترى أنّه "يمكن الاستفادة من التقنيات الحديثة ومن نُظُم التمويل الجماعيّ والتعاونيّ إذا جرت إدارتها ضمن رؤيةٍ وطنيّة واضحة، بحيث لا تصبح عودة النازحين رهنًا بمصالح فئةٍ معيّنة". مضيفةً: "لدينا المجلس الأعلى للتنظيم المدنيّ، لكنّ دوره مغيَّبٌ وغير فعّالٍ في كثيرٍ من المسائل. إذا طُبِّقت الخطة الوطنيّة لتنظيم الأراضي التي أعدّها مجلس الإنماء والإعمار، يمكن تفادي كثيرٍ من المشكلات، مع أهميّة الدور الرقابيّ. وبشأن دور الدولة في الرقابة، لا نطالبها بالمزيد من الصلاحيّات، بل بتفعيل الآليّات القائمة بحزمٍ وشفافيّة. هذا الملفّ لا يحظى بالاهتمام الكافي مع أنّه في غاية الأهميّة. أمّا إشراك المجتمعات المحليّة، فقد شهدنا تجربةً مقبولةً إلى حدٍّ ما بعد حرب عام 2006، إذ استمرّت إعادة الإعمار ستّ سنوات، وتأسّست لجان عديدة شارك فيها الناس نسبيًّا".
والحال أنّه قد يمثّل مشروع قانون إعادة الإعمار الجديد خطوةً تنظيميّةً أوليّة إذا جرى تطويره لإدراج معاييرٍ ومحدّداتٍ تراعي حقوق السكّان والبيئة، وتمنع تفاقم التجاوزات الزبائنيّة. لكنّ المشروع بصيغته الحاليّة، ووفق المعطيات الماليّة والسياسيّة الراهنة، لا يبشّر بإعمارٍ متكاملٍ يعيد الحيويّة إلى القرى والمدن المتضرّرة، ويضمن عودةً آمنةً للأفراد والأسر، ويصلح ما تهدّم تحت ضربات الحرب.