عندما يكون الطرف الآخر في الصراع العدوّ، يُقِّيدُ النقاشُ وضوحَه بمناورة النحو والصرف، ويخفّف من صدمة القَصْد ببلاغة الإيجاز، أو بأساليب البلاغة المعهودة، دونما إطنابٍ، وبعيداً من "قتْلِ المعنى" الذي أجاده كُثُرٌ ممن طاردوا القصد حتى استنفاد كلماته.
وعندما يكون الطرف المقيم بين الأهل هو الطرف الثاني في الصراع، يسلك النقاش مسلك المثل القائل "ضرب الحبيب زبيب"، فتصبح "وَلكِن" واسطة عقد الجمل النقدية، التي لا تصفع أُذُناً، ولا تستثير احمرار وجنة، من حياء، ولا احمرار عين من لوم أو من غضب.في الصراع القتالي المندلع في فلسطين، وفي لبنان، طرفان يقيّدان النقاش عَكْسيّاً، ففي حالة الطرف الإسرائيلي، أي العدو، على الخطاب أن يذهب بالشتيمة السياسية والأخلاقية إلى أقصاها، وعلى قارئ الموقف الميداني، أن يشرح برطانة العاقل، وبرؤية ورويّة المستشرف، مواضع الضعف الاستراتيجية والتكتيكية لدى العدو، وعلى الشارح العليم بأمور النفس وحركاتها، أن يفصّل بعناية، ما يضمره العدو من شر مستطير، وما تمليه عليه نفسه الأمّارة بالسوء، أما التاريخيّ فيحرص على تقليب صفحات المؤامرة في كتابها السحيق، حيث لا زمن يلامس جوهر النص التآمري، وحيث لا جماعات بشرية زمنية تمرّ برحاب النص وتاريخه.
هذا في حالة العدو، أما في حالة الطرف الصديق، أي الفصائل المقاتلة، فإن من واجب الخطاب أن يكيل المديح للروح المتوثّبة، وللجسد المطيع، وللعقل الراجح المستنير، في منبعه النوراني الروحاني، وفي مصبّه الكثيف الملموس. مديح في المقدمة، ومديح في السياق، ومديح في الخلاصات، من دون نأمة اعتراض، ومن دون لوثة الدعوة إلى التفاتة بسيطة صوب الأداء والخلاصات! الإشارة مضرّة بالهدف القومي أو الأمَّوي. البعيد، وهي مضرّة بالصفوف التي تقاتل كأنها "بنيان مرصوص".لكن، وبعد أن بلغ القتل في غزّة "الزبى"، بات متعذّراً على النقاش الإقامة في مقام شتم العدو فقط، وصار لزاماً على الكلام وعلى المتكلمين، الانتقال إلى مساءلة الطرف الصديق عن نتائج سياساته، الفكرية والميدانية.
يزكّي الانتقال إلى نقاش المساءلة، ما شهدته الأرض اللبنانية - الفلسطينية، فهذه قد دفعت من أيامها أعماراً ودياراً ودَيّارين، وما يلحّ على فتح باب المساءلة على مصراعيه، أن الجبهتين المترابطتين قد جرى فكّهما بالنار، وأن المقاتلين في الميدانين، الفلسطيني واللبناني، لم تصدر عنهم بارقة دعوة إلى استعادة الأيام الخوالي، تمهيداً لقراءتها قراءة استخلاصية وخَلاَصية، بل إن ما يملأ الفضاء هو إعلان الإصرار الإرادوي على التمسك بالنهج السياسي ذاته، بعد أن تزلزلت ركائزه الواقعية.إذن، وفي سياق امتناع المقاتلين عن الإقدام على المراجعة، من واجب الذين أصابتهم نتائج التجربة القتالية، القيام بمراجعة مزدوجة من بندين، الأول ذاتي وهو، لماذا هذا السماح المتمادي للسياسة وللساسة، بالذهاب إلى أقصى الخسارة، من دون اعتراض معلن، ومن دون إعلاء الصوت برفض تجديد السماح، بعد أن تجاوز أمده المعقول، من دون نتيجة إيجابية، أما البند الثاني "فموضوعي"، أي يتعلق بالمقاتلين الذين يراوحون فوق بساط "المقولات" السياسية والميدانية ذاتها، ويفاقمون مقادير الخسارة المجتمعية العامة، في فلسطين وفي لبنان.
في سياق النقد البرّاني، للذاتي وللموضوعي، يجب عدم الأخذ الجدّي سلفاً، بمقولة المؤامرة، والصهيونية، والأطماع الاستعمارية...، هذه لا يعيرها النقاش سطوراً طويلة، بل يكتفي بأخذ العلم بها، لأنها معلومة للقاصي والداني، ولأنها تتردّد في الأروقة منذ عقود وعقود، ولأنها رافقت الأنظمة الانقلابية العربية، ورافقت كل الفصائل "الثورية" منذ نكبة فلسطين سنة 1948، وما زالت ترافقها حتى نكبة فلسطين الجديدة الراهنة.وفي سياق النقد البرّاني أيضاً، يجب عدم الوقوف طويلاً عند بيانات مقولات القوّة والإرادة، وعدم المكوث طويلاً عند بيانات الفداء والدماء وحب الشهادة واسترخاص الأنفس... هذه أيضاً يؤخذ العلم بها من باب فهم الحماسة وشدّ العصب وشحذ الهمم... وهي معلومة ومتداولة ولها جمهورها الذي يجاوز غضبه فعله، فهذا كثير وهناك قليل، لكنه لم يصل بالأمتين العربية والإسلامية، إلاّ إلى الدَرْكِ الذي صارتا إليه.
النقد البرّاني مُلْزَمٌ بالتخلص من أبجديات الماضي لينصرف إلى معاينة الآني، ولينتقل من ثَمَّ إلى صياغة مفرداته. من الآني الداهم، جملة أسئلة معلومة الأجوبة، لكن لا بأس من إيرادها، لأنها مداخل إلى نقاش بديل منتج، ينوب عن رسائل المواقف المعلومة المتداولة، والمتبادلة، التي أخذت اللبنانيين والفلسطينيين، إلى واقع شديد الصعوبة، وعظيم المرارة.قتال بالشعب أم من أجل الشعب؟ هذا سؤال يجمع بين لبنان وفلسطين. طلب سلطة ونفوذ في سلطة، أم طلب تحرير أرض وتحرير إرادة؟ قراءة موازين قوى أم سياسات صدم رؤوس بالجدران؟ لو سألنا عن الرهائن في غزّة، مَنْ الرهينة اليوم؟ هؤلاء الأسرى، أم غزّة بأكملها؟ ونضيف من استفاد من تطاول زمن ملفّ المأسورين؟ رئيس وزراء العدو مستفيد أول، فلماذا وهبناه ما يفيده؟ حماس استفادت مشهديّاً، وماذا غير الصورة والخطاب والتمسك باليوم التالي؟
المقاومة الإسلامية في لبنان، تتحدث وكأنها ما زالت وصيّة على الدولة! كيف يجيز خطاب مسؤوليها لكلماته القول "أعطينا الدولة فرصة"؟! ماذا لو لم تستطع الدولة الإفادة من الفرصة؟ هل تعيد "المقاومة" الكرّة في الجنوب؟ ماذا عن أفقها؟ وفي مناسبة حديث الأفق: كيف تراءى للمقاومتين في فلسطين وفي لبنان خيال نصر عسكري وسياسي تتطلعان إليه، وتأملان بحصوله؟ هذا في البداية، إذن كيف تمسكت المقاومتان بالخيال ذاته، وأكملتا بالنهج نفسه والأسلوب عينه، بعد أن حَشد "العالم" قواه الحربية والسياسية والإعلامية والمالية... دعماً للعدو، وإدانة "للإرهاب" الآتي من فلسطين ومن لبنان؟ وإلى ذلك، ليقل لنا "المقاوم"، هنا وهناك، لماذا رفض العروض الدولية التي طالبت في لبنان، بتطبيق القرار 1701، وألحّت على إطلاق الرهائن في فلسطين؟ وللبلاغة غير البليغة، كيف لم يؤخذ الوعيد الإسرائيلي، على محمل الجدّ عندما صرّح الناطقون الإسرائيليون بالقول: أعطينا الفرصة للجهود الديبلوماسية، لكننا سنلجأ إلى العمل العسكري، في حال أخفقت الوساطات مع لبنان ومع فلسطين.تتناسل الأسئلة وتتكاثر، وحجمها حجم الأهوال التي نزلت بالفلسطينيين وباللبنانيين، لكن المفيد يظل في خلاصة أساسية واحدة هي: آن أوان اعتماد سياسة إنقاذ ما تبقى، والسعي إلى اجتناب كل ما من شأنه أن يضيف إلى هول الخسائر خسارة إضافية.
أبواب السياسة هذه مفتوحة، وهي معروفة، ودخولها متاح للمقاومتين، في فلسطين وفي لبنان، وفي سياق السياسة الإنقاذية هذه، لن يبخل الحريصون الوطنيون بكل جهد يجعل الدخول سهلاً، من دون شماتةٍ ولا كيدية.
الإنقاذ مسؤولية شعبية وطنية عامّة، وهو مهمة الجميع، والتصرف الفئوي به، ممنوع، في حالتي السلب والإيجاب. لتقف الحرب، كيف تقف؟ في لبنان دولة معنية. في فلسطين سلطة معنية. مع لبنان وفلسطين، جهود خارجية عربية وأجنبية... ليكن الإنقاذ السياسة الوطنية الواقعية العامة.