2025- 03 - 21   |   بحث في الموقع  
logo قبلان رداً على سلام: شطب المقاومة يمرّ بشطب لبنان وسيادته logo "حلّقت سرًا"... ترامب يكشف عن المقاتلة الجديدة "F-47" logo ترامب يهاجم القضاء: لا يجوز لأي قاض تولي مهام الرئيس! logo الجيش الإسرائيلي يدمر مستشفى لعلاج السرطان في غزة (فيديو) logo اردوغان تعليقًا على الاحتجاجات: لن نرضخ لـ"إرهاب الشارع"! logo جابر يدعو لإصلاحات اقتصادية وإعادة هيكلة قطاع المصارف logo قبلان ردًا على سلام: شطب المقاومة يمر بشطب لبنان وسيادته logo "لبحث الوضع الحدودي والتعاون الأمني... وفد أمني لبناني يزور سوريا"
لماذا لا نبارح الصمت بكلامنا عن شِعر وديع سعادة؟
2025-03-21 15:55:56

أفترض أن أحداً قد وجّه إليّ سؤالا كهذا: مَن الشاعر الذي سرّك وآسرك شِعره، فأبحث عن كلمات ولا أجد سوى حصاة الصمت الباردة تحت لساني. ثم ردّي سيكون: الشاعر وديع سعادة. أتت قراءتي لشعر وديع سعادة متأخرة جدّاً عما قرأته من شعر حديث ومعاصر لأهم شعراء لبنان والعراق وسوريا ومصر وفلسطين والمغرب العربي. متأخرة أيضاً عن قراءاتي لسان جون بيرس ورامبو وبودلير وراينر ماريا ريلكه وولت ويتمان وفرناندو بيسوا؛ بل لجويس كارول أوتس وبرنار نويل وأندريه شديد وغيرهم كثير. لكن لماذا لم أقرأ وديع سعادة من قبل؟ لا أعرفُ. فلم أصادف شعره في أيّة مكتبةٍ بما فيها مكتبة الجامعة إلى أن دخلت بيوتنا الإنترنت. أي بعدما كدنا نتجاوز الكتاب الورقي وبيروقراطية النشر التي ضاق بها الشاعر نفسه (...). لم يكن وديع سعادة (1948) أيضاً ممن الذين يبحثون عن صخب الحياة الثقافية؛ كان متوارياً تماماً. مع أنّه أهم من كتب قصيدة النثر في العالم العربي. ناقشنا كثيراً آراءنا حول شعراء نعرفهم كأنسي الحاج، ومحمد الماغوط وبسام حجار، سركون بولص وبول شاوول وعباس بيضون وغيرهم، ولم يذكر لي أحد مرّة هذا الاسم الذي ينطوي على سحر آسر، وشعرية عالية مُفارقة تسير لوحدها في أفق لا هو غنائيّ ولا هو رمزيّ وبلا لعب لغويّ. شعرية مفاجئة، تبعثر كالرّيح كل ما عرفناه من شِعر لتكون هناك لوحدها.ربما اعتدتً، ولو في لاوعيي، أن أقيس في كل تجربة شعرية أقرأها، مسافتها الآمنة وغير الآمنة من مصادرها الثقافية، وعلاقتها المباشرة وغير المباشرة بزمنها الثقافي والسياسي والاجتماعي. ويبدو أنه من السّهل أن نصفِّف جُلّ تلك التجارب كالخرز على هذا الخيط الرفيع. إلاّ أن تجربة وديع سعادة تظل، بشكل ما، مُمانِعة. من دون أن تنفلت، مع ذلك، خارج الطرح الجمالي والأفق الفكري الذي دعت إليه الحداثة.في الواقع، لم تُضف الحداثة الشعرية العربية شيئاً إلى قصيدة سعادة سوى أنها منحتها اسمها المستحق من دون عُقد. وأسعفت ذاك الفتى من قرية شبطين (شمالي لبنان) في حلّ شكلي للمشكلة الفنية التي أخذت برأسه بعض الوقت وتركته يروح ويجيء في خطوات قلقة على سطح بيته وفي صدره هذه الكلمات الثلاث: "ليس للمساء إخوة". فقد دعمت ما كان يؤمن به في أعماقه، وهو أن القصيدة لا ينبغي أن تخضع لأي قواعد خارجية، كالوزن والقافية، كي تسمّى كذلك.نزل الفتى إلى مدينة بيروت وعثر فيها على هذه الإشارة التي تحلّق حولها -كالنار المقدسة- جيلٌ شعري منفتح، سيبرز منه روّاد قصيدة النثر المتّسمون بالجدية حيال التحرّر من أسر القيود إلى الأبد، والذين كانوا يترددون على مقاهي العاصمة بيروت ويخوضون في نقاشات إلى الفجر.
عاش وديع سعادة هذه اللحظة الثقافية المفعمة بالحماس والتمرّد، وهو يصغي هادئا إلى أعماقه أكثر ممّا كان منخرطاَ في سحابة التنظير والتقعيد والمواجهة أو التبشير. كانت قصيدته التي يكتبها على مهل مثل عشب يطلع من مكان ما، في ربيع ما، هي كل ما يهم حقا. إنها قصيدة عفوية، وجمالياتها تلقائية بشكل محيّر. لأن ما تحويه من رهافة شعرية ومن فكر وعمق فلسفي مفتول بتجربة وجودية مع نثرية عالية وسلاسة في إيصال القصد وكل ذلك بمسافة هائلة من شعر الأدب ولغته حديثه وقديمه، أمرٌ يبعث على الدهشة حقا.لقد وقفت دائماً موقف المتعجّب والمتسائل أمام نص وديع سعادة. هذا ما دفعني في إحدى المكالمات الهاتفية التي كانت بيننا قبل سنوات أن ألح على سؤالٍ عذبني؛ إن كان جانب من مصادره الفكرية التي وسمت قصيدته في نصّ أو فكرة ما؛ سألته: هل قرأت قبل أن تكتب قصائدك الأولى شيئاً عن التاوية أو المذهب البوذي أو تأثرت بالفلسفة الرواقية، أو شيئاً من هذا القبيل؟ جاءني صوته الدافئ والغامر بالبراءة، نافياً، صادقاً حتى العظم. لم يكن الشاعر وديع سعادة تاويّاً في شعره ولا أظنّه يتبنى شيئا كهذا. ربّما شعره أقرب إلى مواجهة قلقة مع الوجود، لكني كنت أبحث عن سبب ولو تافه للنتيجة. بمن تأثر وديع على نحو جعل شعره يذهب في هذا المسلك الذي خلا منه أدبنا نثراً وفكراً وشعراً. ربما أمكننا أن نجد شعراء متاخمين لهذه العذوبة، الرقرقة الانسيابية، التي تعيدنا إلى كينونتنا الأولى، ما قبل الثقافة. وليس غريباً على لبنان أن يمنحنا شعراء يصغون إلى الطبيعة والذات في بُعدهما الشفيف كجبران خليل جبران. لكني أعود وأمحو بممحاة كبيرة كل مماثلة أو تشابه في الشّكل كما في الرُّوح والجوهر لقصيدة وفكر ولمسة كل منهما. لا شكّ أن شِعر ونثر جبران أراد أن يظهر وكأنه مكتوب على ورق رقيق كالأناجيل بسِمته الرومانسية المُميزة. بينما شعر وديع ليس رومانسياً ولا رمزيّاً، إنّه يتدفق حرّاً كنبع، ويوحي برحابة الأفق خارج أية مرجعية ثابتة في الذهن؛ روحية كانت أم ثقافية. في قصيدة وديع سعادة أكثر من سؤال غير مطروق. لا نستطيع أن نظل أكاديميين لفترة أطول ونحن نخوض نقاشاً أو نحاضر في شأن قصيدته. هناك مساحة كبيرة من الصمت في شعره؛ هذه المساحة هي الأهم. إنها مساحة بِكر، بريئة، هادئة، وديعة، كاشفة، حالمة، تصل الأشياء ببعضها البعض وتعيد ترتيب علائقها في كينونة واحدة. مُباغثة، ومُنبّهة، تُشظي اليقينيات وتحوّل كل فكرة وثقنا بها إلى غبار. محطّمة أصنام الفكر من دون أن تنذر نفسها لهذه المهمّة أو تدّعي شيئاً. هي شِعر بالنثر إلى أبعد الحدود، إلى درجة تستحيل في بعض الحالات إلى نصّ ملتبس، يستضيف السؤال الفلسفيّ وجوهره التأملي. لهذه القصيدة مكر كبير، وتحوّلاتٌ في ثبات التجربة التي يدهشني كم أنها وُلدت مُكتملة! أكيد أن وديع قرأ ويقرأ شعراً كثيراً، لكنّ شيئاً من قراءاته لا يتسرّبُ إلى نصّه. وأنا أطالع عصر هذا اليوم قصيدة "الحشد" لتجزية بعض الوقت قبل أن يحين وقت الخروج إلى موعدٍ مسائي/ وجدتني في ذات الإنسيابية الهادئة والجمل البسيطة غير المتوترة والتقنية العالية في الانتقال لتصوير المشهد. وها قد خرجت بصعقة جمالية، وحالة تأملية وشرود. شعور بمتانة بناء النّص، مع رخاوة في آن واحد، أو سيولة امتازت بها قصائده، وكأن شيئاً ما على وشك أن ينسكب. وكلّها في قبضة محكمة، شديدة الاختزال لمعلمي الشّعر الكبار. لكن ما لا يمكن وصفه بكلمات هو أثر لا يزول لتلك الفكرة المتأملة التي لا سابق لها، في شعرية شفيفة تنزل كطرق خفيف على الرأس. نصّ ككل نصوص سعادة متخفّف إلى أقصى حد من مفردات أو كلمات ينتقيها الشعراء عن قصد واشتغال أو يسوقها لا شعورهم من رافد القراءة. لا يذهب وديع سعادة إلى مخزون الشِّعر العربي ليستعمل الجاهز، أو ينتقي من القاموس ما يفعمه بالشخصي حتى يثري لغته. فالمفردات والكلمات المشبعة بالأدب لا بد وأن تخبو مع مرور الزمن. أو تبلى كالثوب، حسب تعبير مايكوفسكي. إنّ اللغة عند وديع زاهدة ومتخفّفة وتوشك من خفّتها أن تغرّد. والنّصّ طائر يفرد أجنحته خارج السّرب. إنّها لغة خفق، ونصُّ علوّ. لا لغة خبب وخيلاء. إنها أيضاً، هناك، في نغمة صوته الممتد.
ففي صوت الشاعر الكلمة الصافية كنبع، حركة الجملة البسيطة وإيقاعها الخافت. مسلكها ومنعرجاتها. مجازاتها واستعاراتها. يكتب وديع وهو يتبع صوتاً ما، لذلك فحتى في قراءتنا لبعض من جمله النثرية الطويلة، الملغومة بمفردات تقريرية موضوعية لا نشعر بفقدان هذا النغم ولا خسارة الإحساس العذب بالخفة؛ بل يأخذ بنا حتى النقطة الأخيرة من السطر، ونحن طافحين بالعاطفة والخيال. مقيمين في التأملات الشاردة إلى درجة يخيل إلي أن إيقاع هذا الصوت هو الهيولى التي يتشكّل منها النص، متدفقا بالصور والعلامات. طبعا، ليس إيقاعا غنائيّاً. ربما اعتبرهُ البعض "إيقاعا داخليا"، لا أستطيع دعم هذا المصطلح؛ لأني لا أستحسن فيه كلمة إيقاع. ولكني أشبّه الأمر بشدّ الأوتار في الجملة لإحراز نغم فيها، والذي ينشأ في علاقتها أيضا بغيرها. نغم خاص، وشخصي للنص، وليس إيقاعاً. لا ينفع معه أيّ جنون فراهيدي لجعله ممكنا كطرق منتظم أخرق على الطاولة. بل نغم يرتبط بالنحو ونحت العبارة ومباغثة الفكرة وليس بالحركة والسكون. نغم إيروسي يضم التردّدات في وحدة لا تحتمل التجزيء كتلك الرقرقة التي تنساب مع تدفّق الماء.لغة وديع غير متكلّفة؛ إنها شفافة، مباشرة وليست للمنابر، لكنها تُلقى بشعرية حالمة. حنوٌّ هائل وفرادة من زاوية النظر إلى العالم والوجود. ولكي لا أفوّت خطا عريضا تحت الجملة الأخيرة، فالشّعر العظيم برأيي هو الذي يحملُ ضمن جمالياته زاوية نظر إلى أشياء العالم وفلسفته الخاصّة المميزة. لعلّ هذا ما ينقص شعريتنا المكتوبة باللغة العربية التي ما تزال في كثير من مناحيها مثقلة بالثقافة التي انتجتها. لغويّة، غنائية، محدودة التفكير في الطبيعة والإنسان والوجود والموت وطرائق الفنّ. هناك استثناءات يُدرج ضمنها القلّة، ولا شكّ.مع هذه المحاولة السريعة للتفكير في شعر وديع سعادة، لا أشعر أني بدأت الكلام بعد. ما زالت ثمة حصاة تحت اللسان. خرسٌ تحت وطء تميّز هذا النّص الذي رغم كلّ الترجمات والتناول النقدي أحيانا، لم يأخذ حقّه كما ينبغي، ولا كما يجب (...). ذلك لأنّه نصٌّ فارغ من شِعر الأدب، متخفّف إلى أبعد حدّ ممّا أثقلنا من عبء الثقافة السائدة. نصّ يأتي من بعيد، من الأعماق، وليس من جهة محدّدة. نصٌّ كونيٌّ، هائل. ندرك أهميته هذه حين نكون أشخاصاً فردانيين لا يتقبلون أن يفرض عليهم ما الذي يجب عليهم أن يعتبروه نصّا شعريا بالغ القيمة وما ليس كذلك.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top