تنتج الأزمات الكبرى أو الحروب، مفاهيم وتعابير بائسة، تردّ الشخوص المفترض أنهم خارج الاصطفاف والانقسام، إلى زواريب وعصبيات ضيقة، تجعلهم في موقع مستهجن وملتبس. المجتمع الطائفي ليس بريئاً من لعبة وضع الأسماء في الزواريب، كذلك النخب السياسية والإعلام، وحتى بعض المثقفين أنفسهم.
فعلى مدار الحرب الأهلية في لبنان، لا سيما في سنواتها الأولى، شاع مصطلح "المثقفون المسيحيون" و"المسيحي الوطني". كان ذلك للتعبير عن سياق تاريخي هو سياق تمايز فئة من المثقفين "بالسياسة" عن سياسة الأكثرية السائدة في الطائفة التي انتسبوا إليها، ولادةً أو تديناً، أي "التزاماً لأحكام الدين وطقوسه من دون التزام سياسات الحزب السائد او الحاكم في الطائفة"(وجيه كوثراني). الأحزاب اليسارية والإسلامية والقومية، لجأت إلى توظيف "المسيحي الوطني" في إطار "البروباغندا السياسية"، من أجل التحريض ضد خصومها من داخل "طائفتهم". أكثر من ذلك اخترع اليسار اللبناني ما يسمى الطائفة الوطنية والطائفة الرجعية والطبقة الطائفة.
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتظاهرة 14 آذار 2005، عدنا إلى نغمة تشبه نغمة "المسيحي الوطني"، فبدأنا نقرأ ونسمع مفرداته في الخطاب الإعلامي المقروء والمسموع والمرئي، وهو مصطلح "المثقف الشيعي". كان وليد جنبلاط يريد "شريكا" أو جناحاً يصله بالطائفة الشيعية، مع أنه وحلفاءه أقصوا المعارضة الشيعية بعد "الحلف الرباعي"، فاختار جنبلاط الحديث عن بعض المثقفين الذي كانوا يؤيدون شعارات 14 آذار في زمن الانقسام العمودي. رد أمين عام "حزب الله" آنذاك حسن نصرالله، على خصومه ممن استخدموا نقد "المثقف الشيعي" ضد "حزب الله"، معتبراً ان هذا الاستخدام كان خدمة للحزب من حيث لا يدري أصحابه، وأنه برهان على "لا طائفية الحزب"، وعلى حال التعدّد القائمة في الطائفة الشيعية. الشاعر عباس بيضون الذي قال في تلك الأيام: "للأسف أنا مع 14 آذار" على اعتبار أنها ترفع شعارات الدولة، كتب في جريدة "السفير" مقالاً بعنوان "عن المثقفين الشيعة" قال فيه: "تكلم وليد جنبلاط عن مثقفين شيعة في غير خط حزب الله وسمى بعضهم، أما السيد نصر الله فوجد هذا مفيداً لتقليل الصورة الشيعية ل حزب الله . أقلام مشايعة ل حزب الله حاسبت هؤلاء المثقفين على تسمية نحلهم إياها سواهم، واتهمت هؤلاء بالبُعد عن منابعهم الشيعية والجهل بالتاريخي الشيعي في لبنان واندراجهم في ثقافة كولونيالية. كل ذلك لم يجد جواباً من هؤلاء، لأنهم استشعروا أن ثمة قضية تفتح باسمهم هم في غنى عنها ولا دخل لهم فيها. لم يسم أي من هؤلاء نفسه، وهم فرادى ولم يجتمعوا قط في كتلة أو جبهة، مثقفاً شيعياً لا في أوله ولا آخرته، وليس عليه أن يدافع عن اسم لم ينتحله ولم يتسم به".
في كتابه "بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه/ الدولة والمواطن" لخص الباحث وجيه كوثراني واقع الاصطفاف ووضع المثقف في إطار التوظيف السياسي، فقال: "هذه خلاصة ما تؤول إليه حال المثقف الذي ينتقد "طائفته" عندما تتعبأ حول ايديولوجيا واحدة وثقافة واحدة وخط واحد: تعطيل دوره السياسي كمواطن، بل تعطيل دوره كمواطن باحث وكاتب، منتج لمعرفة ما، أو فن او ابداع. ذلك أن الحياة السياسية اللبنانية أضحى متنها يمارَس داخل الطوائف".
ليس السياسيون وحدهم أصحاب المسؤولية عن تعطيل عن المثقف كمواطن، فيروس الطائفية كان حاضراً لدى بعض "النخبة" الذي يسيطرون على واجهة المؤسسات الإعلامية والثقافية والاجتماعية، ومنطق 6 و6 مكرر يحصل ضمن عرض مسرحي أو في ندوة عابرة عن كتاب. قال الباحث أحمد بيضون في مقابلة صحافية: "نشأنا في مواجهة مراجعنا الطائفية لا في حضنها ولا على ركبها (...) انا واحد من مجموعة أفراد (...) يشعرون بأن وجهة النظر الطائفية والتصنيف الطائفي هما تهديد لهم، وهما أمر هم مضطرون لمواجهته بصور متعددة ليس من الضرورة أن تكون دائماً صور رفض. فأحياناً قد تُدعى إلى مناسبات ويُطلب منك مشاركات بصفة طائفية ضمنية. والذين يدعونك لا يصرحون لك بها لكنك تشعر بأن ما جعل هذه المجموعة المدعوة إلى القيام بعمل أو لإعطاء رأي بأمر معين تتشكل على هذا النحو، إنما هو منطق طائفي. هذا المنطق هو الطاغي في البلد".
ما حصل يحصل في لبنان على مدى سنوات، ربما حصل شبيهه في زمن بشار الأسد في سوريا. يقول أحد الزملاء ممازحاً كنت تسمع تعابير غريبة عجيبة مثل "علوي بس جيد"، "سني بس بيشرب"، "كردي بس وطني"، "معارض لكن يحب الرئيس"، كان التركيز على انتماء المثقفين المعارضين إلى الطائفة العلوية، جزءاً بارزاً من ثقافة الثورة، تعطل دورهم كمواطنين سريعاً. وبعضهم وجد في إبراز ولائه سلّماً للوصول والاستغلال، ووظف أصله الطائفي على شاكلة "المسيحي الوطني"، والأرجح أن النظام الأسدي نشر في أرض خصبة فيروس تعطيل المواطنة في المجتمع وفي الثقافة وفي السياسة، بل انضم بعض المثقفين الموالين إلى خانة معطّلي المواطنة، إذ لديهم اتهاماتهم المسبقة عن كل من كان يعارض، يتهمون كاتباً مؤيداً للثورة بأنه "جبهة نصرة" مع أنه "مسيحي"، أو يتهمون باحثاً تحدّث عن العلوية السياسية بأنه داعشي لمجرد أنه سنّي دمشقي. والآن مع أحداث الساحل والنظام الجديد سقطت الأقنعة، بدأ الفرز بالهمس وربما بالمباشر في الفايسبوك: فلان "روائي سنّي" في مواجهة فلان "شاعر حداثوي لكن علوي"، وذاك مثقف درزي. والأسوأ من ذلك أن بعض المشاهير يُحارَبون لمجرد أنهم علويون... جمال سليمان نموذجاً.