2025- 03 - 21   |   بحث في الموقع  
logo سلام: لا شطب للودائع ومساعٍ لجمع مليار دولار لإعادة الإعمار logo هل الأمومة ضرورة بيولوجية أم تجربة ميتافيزيقية؟ logo سلام: الانتخابات في موعدها وهدفنا تحرير الودائع logo بيان هام من “كهرباء لبنان”.. هذا ما جاء فيه! logo المحكمة العليا تعلّق إقالة بار... وتعليقٌ من نتنياهو! logo ظاهرة تنتشر في شوارعكم تشكّل خطرًا على حياتِكم... ودعوة للتحرّك! logo كاتس يهدد أهل غزة.. وحماس تنفي وقف المحادثات logo تغريم وزيرين للصحة ورئيسي اللبنانية في "فضيحة" فحوص كورونا
ليست كل أم مُلهَمة أو عظيمة
2025-03-21 00:25:51

الأم. هي تلك الفكرة الخالدة التي تعيش بين التضحية والبؤس، بين الحب الغامر والألم الصامت، بين الندم والفخر. ليست كل أم مُلهَمة، وليست كل أم عظيمة، ولعل الاحتفاء بعيد الأم ليس سوى محاولة خائبة لتغليف كل هذا التعقيد بوردةٍ حمراء أو قصيدة سطحية.
فما معنى الأمومة حين تتحول إلى معركة مستمرة ضد كل شيء؟ ضد الفقر والحروب والعجز والإحباط، وضد الذات أحيانًا. إنها أرض مليئة بالأشواك، حيث تولد أمهات عظيمات وأخريات محطمات، أمهات يحتملن كل شيء وأخريات يهربن من كل شيء. بين هؤلاء وهؤلاء، يكمن واقع متشابك يفضح زيف الأيقونة المثالية.أمهات الجنوب: الحب فعل مقاومة"أجمل الأمهات، تلك التي انتظرت ابنها وعاد مستشهدًا"، يقول الشاعر حسن عبدالله. لكن ماذا عن الأمهات اللواتي لم يعد لهن أحد؟ عن أمهات الجيش، الأمهات اللواتي انتظرن ولم ينته الانتظار، وكأن الزمن توقف عند لحظة الفقد ولم يتحرك بعدها.في القرى الجنوبية، حيث الأرض لا تكفّ عن ابتلاع الشباب، تتحول الأم إلى بطل تراجيدي مجبر على لعب دور لم يختره. هناك، تتربّع الأم على عرشٍ من العدم، تُعيد ترتيب الفوضى بيديها المرتجفتين، تتعلم كيف تحوّل الخوف إلى حياة، وتبتكر طقوسًا للبقاء بدلًا من وصفات الطعام. الأمومة هنا ليست حنانًا فقط، إنها هندسة البقاء اليومي وسط خرابٍ مطلق.أم علي، واحدة من النسوة اللواتي سحقتهن الحرب ثم نفثتهن كحطام يرفض أن يتناثر. فقدت زوجها في حرب تموز، ثم ابنها في عدوان أيلول. لم يُمنح لها حق الاستسلام أو حتى مجرد الحزن. كان عليها أن تتحوّل إلى عمود أساسي في بناء متهالك، إلى ظل وسقف وحماية. بصوتٍ مثقل بالخشونة والتعب، تقول:"علمتُ أولادي أن يسيروا خلفي كما يسير الصغار خلف أمهم الدجاجة. زوجي لم يكن موجودًا، وكل قرار كان عليّ اتخاذه وحدي".تحولت الأمومة عندها إلى نوعٍ من الحذر المستمر، إلى محاولة دؤوبة لترميم ما لا يمكن ترميمه، إلى سعي دائم لتأجيل الهزيمة، حتى لو كان ذلك على حساب جسدها وروحها. هي لا تصنع حياة، بل تحافظ على بقاياها، تحاول بناء بيت جديد من ركام الحروب، من ذاكرة مغبرة وخوف لا ينتهي. وتختم قائلة، بصوت يحمل وجعًا قديمًا وثقلًا لا يزول: "في الحرب، الأمومة ليست عاطفة، إنها تكتيك للبقاء".كأنها تروي حقيقة لم ينتبه إليها أحد، أن الحب ذاته حين يُحاصر يتحول إلى سلاح مكسور، سلاح يدافع عن الحياة دون أن يملك قدرة على الانتصار.
لكن ليست جميع الأمهات يُمنحن هذا الترف البائس بالاستمرار. فهناك من الأمهات من لا يمتلكن رفاهية الزمن لتستمر الحياة معها كما كانت، أو لتعيش على أمل أن تحتفظ بالذكرى في طيّات الذاكرة دون أن تختلط بالألم. في مارون الراس، وقفت أم شهيد كجدارٍ أمام الموت بعد انتهاء مهلة الستين يوما، وعودة الأهالي إلى منازلهم رغم بقاء الاحتلال الإسرائيلي. لم يكن بوسعها أن تنتظر، أن تتراجع، أو حتى أن تبكي. لم تكن دموعها في ذلك اللحظة ترفًا، بل كانت رسالة تتحدّث بلسان جرح لا يُشفى، جرح تتناثر فيه آلاف الكلمات التي لا يُسمح لها بالخروج.
كان عليها أن تقف في وجه الآلة الحربية بصدرها العاري، أن تصرخ في وجه القاتل، قائلةً: "اقتُلني.. جاي فتش على ابني الشهيد". لم يكن غيضًا من غضب، بل كان صرخة أحرقت بداخلها كل المشاعر الإنسانية التي لا تزال تحاول البقاء على قيد الحياة في ظل واقع مليء بالخراب والموت.الأمهات في الجنوب لا يردن الأوسمة ولا التعازي. لا يردن شيئًا سوى أن يتوقف الزمن لحظة واحدة، كي يشعرن، ولو للحظة، أن التضحية لم تكن عبثًا. أن الحب الذي تحوّل إلى موتٍ كان يستحق أن يُعاش. لم يكن أمامهن خيار سوى أن يُثبتن لكل من حولهن، ولمن سيأتي بعدهن، أن الحب والوطن لا يُقاسان في حجم أو زمان. بل هما قوة قد تتحدى الاحتلال، وقد تقتلعه من جذوره. إنهن يعشن في وقفة واحدة بين الماضي والمستقبل، بين الموت والحياة، ليبرهن على أن التضحيات ليست مجرد أرقام في تاريخ طويل من الحروب، بل هي شهادة على عظمة الوجود، رغم كل الألم.البيت.. الجدار الأخيرفي مدن وقرى جنوبية، حيث تنساب نهر الدماء في شرايين التاريخ، يضيع كل شيء لا تقوى الأمهات على استعادته، تمامًا كما تخسر الأم أولادها. لا فرق بين فقدان البيت وفقدان الابن، فالأم لا تفرّق بين الجدران التي احتضنت طفولته وبين قلبها الذي نبض بحبّه. في الجنوب، البيت ليس مجرد جدران وسقف، هو ذاكرة، هو شريان الحياة الذي يُبقي على الوجود، ويجعل للحياة معنى. عندما تُخطف البيوت، تُختطف معها الذكريات، وتُسرق منها الأمان، ويُسلب منها الأمل.
تقول أم محمد، التي فقدت منزلها في زوطر: "البيت للأم هو كل شيء. الجدران تحمل أصوات أولادي، روائحهم، ضحكاتهم وبكاءهم. أن تخسر بيتك يعني أن تخسر ذاتك، أن تُقتل على مهل، كل يوم ينقص منه شيء جديد". هكذا هي الأم، تكون في البيت، وهو فيها. لا يقتصر البيت على كونه مكانًا للسكن، بل هو أيضًا ملجأ للحلم، هو الحاضن الأول للذوات التي تخلقها الأمهات في لحظات الحب والتضحية. كل زاوية في المنزل تحتوي على قطرة من روح الأم، وكل نافذة تُفتح على حياة ما زالت حية، رغم الرياح التي تعصف بكل شيء حولها.
البيت بالنسبة للأم هو امتداد لها، هو رحم جديد يتسع للأبناء حتى بعد مغادرتهم. هناك، في ركن من البيت، تظل الأم تزرع في الذاكرة بذور الحكايات، ترويها رغم انقطاع الحياة عنها. وعندما يتحطم البيت، لا تنكسر الجدران فقط، بل ينكسر شيء في الروح، كما لو أن الأمومة تُجرد من معناها في لحظة واحدة. وكأنها تصير خالية، عاجزة عن حمل عبء الذاكرة التي أصبحت مُبعثرة، تنتثر بين أنقاض المنزل الذي كان يومًا ما كل شيء.
في تلك اللحظة، تصبح الجدران أشبه بأشلاء الماضي، يصعب على الأم أن تميز بينها وبين نفسها. فكل خدش في الحائط يمثل خطًّا في قلبها، وكل رائحة عالقة بين الجدران، ليست مجرد أثر للزمن، بل جزء من تاريخهما المشترك. تضيف أم محمد "لا يمكن لأي شيء أن يعوّض عن تفاصيل تلك الحياة بكل ما فيها من ألم وأمل، والآن أصبحت ذكرى مجردة، تثير في القلب حسرة لا نهاية لها".الأمهات المضحيات: البطولة الصامتةأما الأمهات المضحيات، فهنّ أولئك اللواتي ربتن أولادهن بمفردهن بعد هجران الزوج. وهؤلاء هنّ المُلهمات اللواتي تعيشّ داخل قلوبهن معركة لا تنتهي. إنهن لا يملكن رفاهية الانكسار أو السقوط في الفشل. تقول نهى، الأم الصامدة، التي حملت عبء الحياة على عاتقها بشجاعة: "علمتني الحياة أن أكون صلبة كي لا يراني أطفالي مكسورة. كنت لهم أبًا وأمًا، وسقفًا حين تساقطت بيوت كثيرة".
لم تكن نهى تربي أربعة أولاد بمفردها فحسب، بل كانت تربّي نفسها أيضًا، تحارب في كل لحظة كي لا تهتز أمامهم، كي تبقى الصورة كاملة، كي تكون الصخرة التي لا تُحطم. كان عليها أن توازن بين أعباء الحياة اليومية، بين العمل الذي لا يتوقف، وبين كل لحظة يتسلل فيها القلق إلى قلبها عن مستقبل أولادها.. ولكن ماذا تفعل عندما تكون وحدها في معركة الحياة؟ هل يمكن أن يتوقف الزمن ليعطيها فرصة لاستعادة جزء من نفسها؟ بالطبع لا، لأن الأم، في قلب المعركة، ليست سوى المقاتل الذي لا يستطيع التراجع، مهما كانت الجروح.الأمهات العاملات: صراع الهوية والمجتمعفي الجانب الآخر، تقف الأمهات العاملات، الممزقات بين واجبات العمل وضغط الحياة اليومية. تُواجه الأم هنا تحديًا مزدوجًا، فبينما تحاول أن تظل وفية لدورها الأمومي، تكافح أيضًا لتكون إنسانة مكتملة، تسعى لتحقيق ذاتها بعيدًا عن هويتها كأم فقط. تقول غريس عازار: "أحيانًا، أشعر أنني أُعاقب لأنني أريد شيئًا لنفسي، أن أكون إنسانة مكتملة خارج الدور الأمومي. لكن كلما حاولت، وجدتني أسقط في فخ العجز، لأن المجتمع لا يغفر للأم عندما تحاول أن تكون شيئًا آخر".هذه الكلمات تحمل في طياتها ثقلًا هائلًا من المعاناة، فالأم هنا لا تعيش في صراع داخلي مع نفسها فحسب، بل أيضًا مع مجتمع يتوقع منها أن تكون موجودة دائمًا من أجل الآخرين، وألا تنفصل عن هويتها كأم مهما كانت الظروف. هنا، تتحول الأمومة إلى قيد غير مرئي، قيد يكبلها بأعباء ثقيلة لا تُرى، ولكنها تُشعر بها في كل لحظة. كل محاولة للهرب، كل محاولة لتقليص هذه المسافة بين الذات الأمومية والذات الفردية، تصبح وكأنها خطيئة لا تُغتفر.لكن ليس كل الأمهات شبيهات بتلك الصور النمطية البطولية. هناك أيضًا الأمهات السامّات، غير المسؤولات. هذه الأمهات، اللواتي قررن أن تتخلين عن المسؤولية أو يبتعدن عن دورهن، ليس لأنهن فشلن أو عجزن عن العطاء، بل لأنهن اخترن ألا يتحملن عبء الأمومة. لكن هذا القرار ليس بالضرورة نتيجة للضعف، بل قد يكون هو الاختيار الأكثر صدقًا لهن. فالأمومة، كما نراها في بعض الأحيان، ليست دائمًا عملية مثالية تستحق الاحتفاء، بل قد تكون معركة نفسية وعاطفية تختار بعض الأمهات ألا يخوضنها.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top