ولدت ماما في 25 كانون الأول 1955. أي حين كان العالم يحتفل بولادة المسيح، كنا نحتفل لولادة أمي. عاشت أمي سنوات أطول من سنوات المسيح. مات هو في الثالثة والثلاثين من عمره، وهي ماتت هي قبل أن تتم التاسعة والستين بخمسة أشهر، لكن حياتها مثله، لم تخلُ من الصعاب، ولو أنها لم تُصلب.الأولاد يخسرون أهلهم طيلة الوقت. الأمر المؤكد الذي يدركه كل الأولاد طيلة حيواتهم، أنهم سيخسرون أهلهم يوماً ما. وعمر الـ69 عمر مقبول للموت، أو مفهوم، أو بالأحرى لا يشكّل فاجعة، من دون أن ينتقص الموت في هذا السن من قدر الحزن والفقدان. أنا لم أُفجع بموت أمي، لكن أمي فُجعت بموت أمها.في 27 آذار 1984، ماتت جدتي آمنة والدة أمي، بعد معاناةٍ مع مرض السلّ. كان عمر جدتي حينها 45 سنة، وعمر أمي 29 سنة، وأنا 6 سنوات. لكن تلك لم تكن الفاجعة الأولى لأمي. فقبل 12 عاماً من رحيل أمها، أي في العام 1972، انتحرت أختها سامية. كان عمر خالتي 20 سنة، وعمر أمي 17 سنة، وأنا كنت سأولد بعد 6 سنوات. وفي العام 1990، مات جدّي والد أمي. كان عُمر جدي أبو ناصر حينها 62 سنة، وعمر أمي 35 سنة، وأنا كان عمري 12 سنة.أمي صارت وحيدة. لا أب ولا أم، لا أخ ولا أخت. ونحن، أولادها وزوجها، لم نتمكن على الأرجح من ملء فجوة تلك الفواجع مهما حاولنا. عشنا حزنها وفقدانها وفجيعتها بموت أمها أكثر من أي فجيعة أخرى لها. خسارة الخسارات. أمي كانت "الدلوعة" لأن أمها أرادت لها ذلك. أرادت أن تجنبها كل شيء وأن تقوم بدلاً منها بكل شيء. حتى بعدما تزوجت أمي العام 1974، وكانت ابنة 19 عاماً، وبعد عامين على وفاة أختها، سكَنت مع أهلها في بيتهم –الذي صار بيتنا– في حين سافر أبي للعمل في الخارج، وبقيت جدتي تدير شؤون حياة ابنتها التي باتت وحيدتها. أذكر أن دور جدتي كان كبيراً في حياتنا وتربيتنا وشؤوننا اليومية، إلى حين وفاتها، فاضطرت أمي أن تصبح أمّاً، مُتّبعة بروتوكلات أمها "القديرة" لتصبح قديرة مثلها، لكن حزينة.عشت هذا الحزن والخسارة كل العمر. لم يعنِ لي عيد الأم شيئًا لأن أمي لا تحب هذا العيد. بل كرهت هذا اليوم لأن أمي كرهته، ولأنه كان سبب حزن إضافي لها. كرهي لهذا اليوم لم يكن فقط تضامناً مع أمي، فمع الوقت صار كرهاً للحزن وتجنباً له. حزن الآخرين يصبح أمراً منفّراً، خصوصاً عندما يُفرض عليك. فُرض هذا الحزن عليّ، فرضته أمي بدموعها المرافقة لكل ذكرى مرتبطة بالأم وعيدها.أذكر أني كنت متعلقة بجدتي كثيراً، لكني مع الوقت فقدت الاهتمام بتذكّرها لأن ذكراها وذكرها كانا يعنيان المزيد من ملامح حزن أمي. ولعلّي مع الوقت أيضاً، فقدتُ الكثير من الأحاسيس المرتبطة بالمشاعر اتجاه الأمومة، واستبدلتها بأحاسيس حزن. عندما طلب الطبيب من أمي أن تخرج من الغرفة، خرجت من دون أن تعلم أنها اللحظة التي كان الطبيب يحتاجها ليسمح لمريضته أن تفارق الحياة بسلام. وعندما عادت إلى الغرفة بعد دقائق قليلة وجدتها ميتة، ففُجعت. ولم تصدق طيلة عمرها هذه الخسارة، كما لم تصدق ما آالت إليه حياتها من دون أمها... حبها الأصلي. خسِرت صخرتها عندما خسرتها أمها. الصخرة التي مدت حبل الدلال أطول من اللازم، بشكلٍ لم يكن في مقدور أحدٍ أن يتسلّمه بعدها. لا يمكن لزوجٍ أن يدلّل زوجته، ولا لأولادٍ أن يدللوا أمهم، كما فعلت جدتي.لكننا عندما كبرنا، انتبهنا. رنا أختي نبهتني إلى أننا طيلة حياتنا مع أمنا، كنا نحن من يدلّلها، وكانت هي من يستقبل الدلال. لم نكن مدلَّلين. كنا المدلِّلين. عندما فتحنا، رنا وأنا، خزانة أمي بعد رحيلها، لم نجد قطعة واحدة لم نشترها نحن لها. لا الفساتين ولا الأحذية ولا الملابس الداخلية ولا العطور ولا الإكسسوارات ولا الذهب ولا فرشاة الشعر ولا طلاء الأظافر ولا الماكياج... كل شيء. القبلات والأحضان كلها كانت مِنَّا نحوها. وكان هذا اكتشافاً. كانت تستقبل منّا كل شيء كأنه الأمر البديهي، من دون أن تبادر نحونا. نحن نفعل وهي تردّ على الأفعال. نقبّلها فتقبّلنا. نحضنها فتحضننا. أفكر الآن: كيف لمَن فُجع بقدر ما فجعت هي، أن يبادر؟أشبه أمي كثيراً. ويبدو أن خسارتها لأمها وواقعها الذي جعلها وحيدة، انتقل إليّ من دون أن أفهم الأمر كثيراً أو أحلّله. اكتفت أمي بما حصلت عليه من أهلها، واكتفيت أنا أيضاً بأقل ما أعطتني، وظننت الأمر عاديّاً، ولم أشعر بأي نقص. ظننتُ أن ما حصلت عليه هو ما يحصل عليه الآخرون، وهو كل ما أحتاج. كنت مخطئة، لكنني صرت مكتفية وانتهى الأمر. لم أرغب في حبّ العمّات أو الجدّات، ولا لمساتهنّ. أتجنّب لمسات القريبات قدر الإمكان. أمي أيضاً لم تكن تحب اللمسات والقبلات الكثيرة.في ساعاتها الأخيرة حضرت صديقاتها وقريباتها، ولمسنها كثيراً. بعدما طلبتُ منهن أن يغادرن لأنها لا بد تتساءل عن سبب وجودهن جميعاً ومعاً وربما يربكها الأمر، سألتها إن كنّا قد أثقلنا عليها أو "ضيقنالك خلقك؟"، فقالت لي أن لمساتهنّ أزعجتها. سألتها إن أزعجتها أنا بلمساتي، فقالت أن لمساتي لا تزعجها لأني أعرف كيف ألمسها من دون أن أزعجها... لأني مثلها. لكن عندما حضرت النسوة مجددًا، أخبرتهن أنها عبّرت عن انزعاجها من لمساتي كي يتوقفن عن لمسها من دون أن ينزعجن بدورهن.كرهتُ عيد الأم كل الوقت، لأن الحزن كان مفروضًا عليّ، لأن أمي لم تحاول إخفاءه. أظهرته بكل الطرق، دموعاً ونظراتٍ. عند سماع أي أغنية عن الأم، أو مشاهدة أي مشهد من فيلم أو مسلسل له علاقة بالأم أو بموتها، كان حزن أمي حاضراً ودموعها، وصار هذا الحزن ينغّص عليّ الكثير من اللحظات، رغم محاولاتي الكثيرة لتجنّبه أو حتى تجاهله.عيد الأم هذه السنة سيكون الأول من دون نظرات أمي الحزينة لفقدان أمها. لكن نظراتي أنا حزينة. أفتقدها كلما سمعت صديقاتها يتحدثن كيف حضّرن أقراص الكبة وهي التي كانت تحضرها لي بأًصغر حجم تلبية لطلبي. أفتقدها كلما نسيت مكونات أكلة أو فشلت في تقليد إحدى طبخاتها. أفتقدها كلما دُعيت لتناول الطعام عند الأقارب وقارنت بين سُفرتهم وسُفرة أمي. أفتقدها كلما شربت الشاي بعد أي وجبة، وكلما شاهدت حلقة من مسلسلٍ تركيٍّ أتعمد مشاهدته لأنها كانت تشاهده. أفتقدها كلما ارتديت أحد قمصانها أو معاطفها، وكلما ذهبت بدلًا منها لحضور مأتمٍ. أفتقدها كلما أخذت قيلولة العصر كما كنا نفعل. أفتقد أن تتوسطنا، رنا وأنا، ونحيطحا بأذرعنا ونحن نمشي في الحي وننمّ على الآخرين.أفتقد أن أسألها هي، لا صديقاتها. أغصّ كيف أنني لم أطرح عليها كل الأسئلة وأدوّن كل إجاباتها في الدفتر الذي كتبتُ فيه بعض وصفات طعامها عندما كنا نجلس في المطبخ، حيث أسألها وتجيب بدقة. لماذا أصلًا لم أدوّن الوصفات كلها، وبالتفاصيل الكاملة؟ كم كوباً من البرغل أضع مع نصف كيلو اللحمة قبل أن أدعكها لأحضر الكبّة... مثلًا.أفتقد أن تكون لي أمّ. أفتقدها ليس فقط حيّة بل حيّة وبصحة جيدة. خسرتها عندما مرضت، ثم عندما ماتت. أفتقد أمي ربة المنزل التي تملي عليّ ما يجب فعله، فأتبع إرشاداتها، لا أمي المريضة التي اضطررت أن آخذ دورها في حضورها ورأيتُ فشلي في كل خطوة. أفتقد أمي وأفتقد اعتمادي عليها. أفتقد أمي وأفتقد أن أكون الإبنة.