عمرها يزيد على عمر دولة لبنان الكبير بنحو خمسين عاماً. تخرج منها غالبية رؤساء الجمهورية والنخب السياسية والإعلامية والإدارية اللبنانية. هي جامعة القديس يوسف (Université Saint-Joseph - USJ) التي تحتفي اليوم بالذكرى المئة بعد الخمسين من تاريخها اللبناني.
تعد "القديس يوسف"، ومعها الجامعة الأميركية في بيروت، من أعرق الجامعات اللبنانية وأكثرها حضوراً، بالمعنى السياسي قبل الأكاديمي والثقافي في بلاد الأرز. تأسست عام 1875 في بيروت على يد الرهبانية اليسوعية والآباء اليسوعيين بهدف توفير تعليم عالٍ متميز باللغة الفرنسية، وهي واحدة من أقدم وأعرق الجامعات في لبنان والمنطقة. ولعبت دوراً مهماً في "صناعة" النخب السياسية، قبل الحديث عن تطوير التعليم العالي في البلاد. منها تخرج أول رئيس جمهورية للبنان، بعد إنشاء دولة لبنان الكبير تحت الانتداب الفرنسي، شارل دباس، مروراً برئيس الاستقلال بشارة الخوري، ثم فؤاد شهاب. هذا فضلاً عن الرؤساء الذين توالوا في فترة الحرب الأهلية مثل الياس سركيس وأمين الخميل، وصولاً إلى رؤساء الجمهورية لمرحلة ما بعد الطائف، إميل لحود وميشال سليمان وميشال عون. وإلى جانب تخرج أحد "المهندسين الرئيسيين" لدستور لبنان عام 1926، ميشال شيحا، الذي وضع الأسس لنظام الحكم البرلماني والطائفي واستطراداً الاقتصادي. كما خرجت الجامعة أبرز النخب السياسية من رؤساء حكومات ونواب، وكوادر إدارية وأعلام صحافية وعلى رأسهم الراحل غسان تويني، وأدباء على رأسهم أمين معلوف.حضور حاشدأقامت الجامعة بذكرى تأسيسها احتفالاً مساء أمس، الأربعاء في 19 آذار، في حرم التكنولوجيا والعلوم – مار روكز- الدكوانه، برعاية رئيس الجمهورية اللبنانية العماد جوزاف عون، ممثلاً بوزير الطاقة والمياه ورئيس المجلس الأعلى لجامعة القدّيس يوسف في بيروت جو صدّي. وتمثلّ الرئيس نبيه بري بالوزيرة تمارا الزين، والرئيس نواف سلام بالوزير غسان سلامة، وحضر الاحتفال إلى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، نائب رئيس مجلس الوزراء طارق متري، وعدد من الوزراء والنواب الحاليين والسابقين، ورسميين.تحرّر لبنان من أشراره ومخاوفهوألقى رئيس جامعة القديس يوسف في بيروت البروفسور سليم دكّاش اليسوعيّ كلمة قال فيها: "نضالنا الذي لا ينتهي، نضال رؤساء الجامعة السابقين الآباء دوكروييه وعبو وشاموسي وأنا، منذ العام 1975 وحتّى يومنا هذا، أن نرى لبناننا قد تحرّر من أشراره ومخاوفه، متغلّبًا على أزماته الأبديّة التي وضعت - ولا تزال تضع - البلد في خطر تدمير هويّته ومصيره كدولة تتمتّع بالحريّة والسيادة".وتابع: "لقد أرسينا المبادئ عبر الزمن، مع الطبقة الوسطى اللبنانية، التي كانت – ولا تزال – فخر بلادنا لعقود طويلة، لكنها تواجه اليوم خطر الاندثار بفعل الأزمات المتلاحقة. لقد دعمناها على الدوام، ونواصل دعمها اليوم في ظلّ الأزمة الراهنة من خلال سياستنا التضامنية، كي تظلّ حاملةً للكفاءات المهنية، وقيم الديمقراطية والعدالة، ووحدة العيش المشترك، وستبقى حيّة ليبقى لبنان".وعن مؤسّسي الجامعة قال: "لم يسعَ هؤلاء المؤسّسون يومًا إلى الشكر، لكنني على يقين بأنهم ينظرون إلينا من حيث هم اليوم، راضين عمّا أنجزوه، وقد أصبحت رسالتهم أمانةً بين أيدينا. علينا أن نحيّي روحهم الريادية، وتفانيهم، وإيمانهم الراسخ بالتعليم، الذي أرسى دعائم مؤسّسة قادرة على الصمود في وجه تحدّيات الزمن. أما نحن، فرق العمل الحالية في الجامعة – من كليّات، ومعاهد، ومدارس، ومراكز بحثيّة، وأحرام جامعيّة إقليمية، إضافةً إلى فرعي الجامعة في دبي وساحل العاج – نشكّل ونعدّ نخبة الكفاءات في البلاد، فجديرٌ بنا أن نفتخر بقيادتنا لسفينة "الجامعة الأم" -ألما ماتر- وسط أمواج مضطربة، وإيصالها إلى برّ الأمان".محطات من تاريخهاوتوقّف عند محطات بارزة في تاريخ الجامعة ومؤسّسيها، مستذكراً "الأساتذة الذين، برغم القصف والدمار، واصلوا تدريس طلاّبهم في أصعب الظروف، حيث انتصر شغفهم بالتعليم على ظلام الحرب".وأردف: "لقد نجت الجامعة من تقلّبات حربين عالميتين، ومن قرارات الإغلاق المؤسفة التي اتّخذتها الرهبانية العام 1972، وحتى أخيرًا، من الدمار الهائل الذي أصابها، وكان آخره انفجار 4 آب 2020، الذي دمّر مستشفى أوتيل ديو دو فرانس وجميع أحرام الجامعة في بيروت، لكنها دائمًا ما استمدّت قوّتها من فضيلة الرجاء، التي وجّهت خطواتنا نحو إعادة البناء، واضعين نصب أعيننا الإنسان الذي كان علينا دومًا حمايته وإنقاذه".وتطرق إلى المبادئ والقيم الأساسية التي أرست دعائم الجامعة، مشيرًا إلى أنها "بتنوّعها الطائفيّ والثقافيّ، حرصت جامعة القدّيس يوسف دائمًا على أن تكون مكانًا للقاء والحوار". وقال:"نؤكّد ذلك مجدّدًا: منذ 150 عامًا، ولأعوام طويلة آتية، سنظلّ نحمل هذه الرسالة، ونعمل، من خلال البحث العلمي والعمل الميداني، على استكشاف أفضل سبل التمثيل السياسي، وصياغة نظام اقتصادي قائم على العدالة التوزيعيّة، وتعزيز مشروع اللامركزية الموسّعة، الذي يشكّل مطلبًا أساسيًا لجميع اللبنانيين، وهو مكرّس في نصوصنا الدستورية".بعض إنجازات الطلابوحيّا دكاش "جهود 50 طالبًا، الذين عملوا العام 2023 بحماسة وفعالية في مركز تسجيل المركبات، حيث قاموا بتطوير برنامج رقمي لإدارة أنشطته، ما ساهم في تحسين أداء هذا المرفق الحيوي المعروف بمشاكله وتحدياته". وكرّم "الذين عملوا العام 2024، بدعم من الوزير السابق للبيئة السيد ناصر ياسين ووزارة الدفاع، على تطوير خريطة رقمية للبنان وبرنامج معلوماتي لتصنيف جميع المقالع والكسّارات، ويبلغ عددها 2000، بينما لا تتمتع بالشرعية القانونية سوى واحدة منها فقط، كاشفين بذلك حجم الدمار البيئي. وقد مكّن عملهم هذا المحاكم من إلزام الكسّارات بدفع الرسوم المترتبة عليها وإصدار قرارات بإغلاق البعض منها، مساهمين بذلك في إحقاق العدالة وحماية بيئتنا".وفي معرض كلامه على دور الجامعة في الحياة العامة قال: "جامعةٌ كان لها دور فاعل في ولادة هذا لبنان، لبنان الكبير، الذي لا تكمن عظمته في مساحته، بل في القيم التي يحملها، ألن تبذل المستحيل، من خلال هذا الكمّ من المبادرات، لكي تبقى، اليوم وغدًا، في خدمة هذا الوطن، وفي خدمة شبابه ومستقبله، بكل تواضعٍ وعزم؟!".كلمات تشيد بالجامعةوألقى البطريرك مار بشارة بطرس الراعي كلمة هنّا فيها الجامعة وأهلها على الاحتفال بالعيد الـ150، مشيداً بهذا الصرح التعليمي الكبير الذي نما وازدهر بعناية من القديس يوسف والجامعة اليسوعية والاباء المؤسسين.بدوره، رئيس المجلس الأعلى لجامعة القدّيس يوسف في بيروت، وزير الطاقة والمياه جو صدّي أكد الدور الجوهري الذي تلعبه التربية، ليس فقط كوسيلة لاكتساب المعرفة، بل أيضًا كأداة للتحوّل الشخصي والاجتماعي. وتلا رسالة رئيس الجمهورية جوزاف عون، الذي ثمّن عطاءات الجامعة اليسوعية في الحقل التربوي والأكاديمي والإنساني. ومنح رئيس الجمهورية الجامعة بشخص رئيسها الأب سليم دكّاش وسام الأرز الوطني برتبة كومندور.وتحدث الأب مايكل زاميط مانجيون الرئيس الإقليمي للرهبانية اليسوعية في الشرق الأدنى والمغرب العربي عن تأسيس الجامعة وتطوّرها. واستذكر كلمته السنة الفائتة خلال الاحتفال بتأسيس الجامعة قائلاً: ركّزتُ بشكل خاص على العام 1975 والتأسيس الجديد للجامعة، حيث أصبحت الجامعة التي نعرفها اليوم. حينها، استشهدتُ بالشرعة التأسيسية الصادرة في 20 أيار 1975، لا سيّما الفصل الثالث الذي يحدّد العلاقة بين الجامعة والرهبانيّة اليسوعيّة، وجاء فيه أن "الرهبانيّة مكلّفة بالسهر على الإحياء الروحي والاجتماعي للحياة الجامعية وضمان وفاء الجامعة لمبادئها الأصلية". أكرّر اليوم تمسّكي العميق بهذه الشرعة التي أؤمن بها إيمانًا راسخًا". ثم تحدّث عن الوثيقة الصادرة عن مجلس الجامعة في العام 2015، والتي تمّ تحديثها في شباط 2022، حيث "أكّد المجلس فيها على رسالة الجامعة، ورؤيتها، والقيم التي توجهها اليوم".أما الرئيس العام للرهبانية اليسوعية في العالم قُدس الأب أرتورو سوسا أباسكال فبدأ كلمته بالإشارة إلى زيارته إلى لبنان بهذه الظروف. وقال: " قبل بضعة أشهر فقط، عندما كانت القنابل تتساقط على البلاد وفي بيروت، لم يكن من الواضح إن كان بإمكاني أن أكون معكم في هذه المناسبة. ومع ذلك، كنت أرغب بشدة في أن يكون ذلك ممكنًا. اليوم، أنا سعيد لأن الوضع، الذي تغيّر بشكل عميق منذ ذلك الحين، يسمح لي بأن أنضم إليكم".عن تموضع الجامعة قال أباسكال: "أودّ أن أؤكد لكم أن جامعة القدّيس يوسف في بيروت ليست معزولة، بل هي مندمجة بشكل وثيق في شبكات التضامن، لا سيّما ضمن شبكة الجامعات اليسوعية حول العالم (الرابطة الدولية للجامعات اليسوعية- IAJU)، التي تشارك فيها بفاعلية، إضافةً إلى شبكات مهمة أخرى مثل شبكة كيرشر للجامعات اليسوعية الأوروبية وشبكة كليّات الهندسة، فضلًا عن الروابط الأكاديمية العديدة الأخرى في أوروبا، وخاصة مع فرنسا".وختم بالقول: "إنّ جامعة القدّيس يوسف في بيروت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتاريخ لبنان. وعلى خطى البابا يوحنا بولس الثاني الذي أكّد أنّ لبنان رسالة، يمكننا بدورنا أن نجازف بالقول، بشيء من الجرأة، إنّ جامعة القدّيس يوسف في بيروت ليست مجرّد مؤسّسة لبنانية للتعليم العالي، بل هي نموذج لهذا البلد".