ثمة كتب تطرح عليك أسئلة وتقدم إجابات على أسئلة أخرى لطالما راودتك. من هذه الكتب "متاهة الضائعين" لأمين معلوف الصادر بالفرنسية العام 2023 وقرأته مؤخراً. وهو يقع في أربعة فصول خُصِّص كل منها لإحدى الدول الأربع حيث يستعرض الكاتب أهم الأحداث التي جرت فيها عبر التاريخ وصولاً إلى يومنا هذا، من خلال سرد يتميز بالوضوح ويربط الأحداث بعضها ببعض ويضعها في سياقاتها الثقافية ويرصد انعكاساتها الاجتماعية والسياسية. هذه الدول هي اليابان، روسيا، الصين، والولايات المتحدة الأميركية.
تولد لدي انطباع عند قراءتي للفصلين المتعلقين باليابان وبالصين، بأن المشرق العربي لا يشكل استثناء في العالم الشرقي عموماً، لجهة معاناته من الاحتلال والتدخلات الأجنبية وأطماع الغرب المستعمر في ثرواته، فقد عرفت بلدان الشرق الأقصى مشكلات وتحديات مماثلة لكنها نجحت في أن تحقق نهضتها وفي أن تصبح من الدول القوية والفاعلة على الساحة الدولية. لكن لهذه
الناحية، تحديداً، يمكن القول أن المشرق العربي يشكل استثناءً. فرغم كل الجهود التحديثية التي بذلها رواد عصر النهضة، منذ مطلع القرن التاسع عشر، وصولاً إلى اليوم، لا تزال المجتمعات العربية ودول المشرق على الأخصّ تتخبط في مشكلات تعجز عن إيجاد حلول لها لأسباب عديدة.لقد عرفت اليابان مرتين في تاريخها ما يسميه معلوف بالمعجزة، المرة الأولى نهاية القرن التاسع عشر في عهد الإمبراطور الإصلاحي الشاب موشيتو (1868-1912) الذي قام بعملية تحديث للنظام الإمبراطوري فوضع دستوراً جديداً للبلاد يسمح بالمشاركة في اتخاذ القرار من خلال تاسيس مجالس شورى، ونجح في إعداد النخب في شتى مجالات العلم والتقنية والقانون والإدارة العامة من خلال إرسال البعثات العلمية إلى أوروبا للاطّلاع على أحدث ما توصل إليه الغرب، كما استقدم من الغرب العلماء والاختصاصيين للإفادة من خبراتهم في المساعدة على النهوض بالبلاد. أضف إلى ذلك أنه شجع على تأسيس الصحف والمجلات، فازدهرت الصحافة في مناخ من الحرية حتى بلغ عدد الصحف والمجلات أربعمئة، منها 20 صحيفة يومية في كيوتو وحدها. هكذا استطاعت اليابان أن تفرض نفسها في عهده كقوة كبيرة مثل فرنسا وإنكلترا وألمانيا وروسيا التي استطاع جيش موشيتو أن يلحق بها هزيمة كبرى العام 1905 فقضى على أسطولها الذي انطلق من بحر البلطيق ليشن هجومه على البلاد. وقد كان لهذا الانتصار صدى عظيما في بلدان الشرق كافة، من الهند الى مصر التي كان مثقفوها يتابعون إنجازات موشيتو التي دحضت مقولة التفوق الغربي. في كتابه المنشور العام 1904 تحت عنوان "الشمس الشارقة"، وتناول فيه التحولات في اليابان، كتب مصطفى كامل (أنظر معلوف ص.51): "لقد علمونا نحن الشرقيين منذ نعومة أظفارنا أن حضارتنا تنتمي إلى ماضٍ غابر، وأنه لم يعد لدينا أي دور في عالم اليوم، وأنه يتوجب علينا أن نقبل تفوق أوروبا. لكن الأمة اليابانية قد برهنت مؤخراً عن كذب هذه الادعاءات". والجدير بالذكر أن ما قام به موشيتو في اليابان، يمكن مقارنته بعملية التحديث التي نفذها محمد علي باشا في مصر ثم حفيده الخديوي اسماعيل الذي تزامن صعوده إلى السلطة مع تولي موشيتو الحكم في اليابان، ونفذّ العديد من الإصلاحات في شتى المجالات العمرانية والعلمية والاقتصادية يحثه حلم بأن يضع مصر في مصاف أوروبا. لكن كما أن النهضة التي أحدثها الإمبراطور موشيتو عرفت انتكاسات بعد وفاته العام 1912، ولم تكتب لها الاستمرارية، كذلك لم يُكتب للنهضة التي طمح إليها الخديوي الاستمرار، مع فارق مهم وهو أن اليابان نجحت بعد مرور ثلاثين عاماً ونيف وبعد هزيمتها المدوية في الحرب العالمية الثانية أن تنهض من جديد وأن تحقق المعجزة للمرة الثانية لتفرض نفسها قوة اقتصادية فاعلة في الساحة الدولية. فقد تخلت عن طموحاتها التوسعية وعن سعيها الى التفوق العسكري وتبنت في دستورها عدم اللجوء إلى القوة كوسيلة لفض النزاعات الدولية. على خلاف ذلك، كانت الدول العربية المستقلة حديثاً تواجه تحديات جمة ليس أقلها خطورة احتلال فلسطين ونشوء دولة إسرائيل، كذراع للسيطرة الغربية، مما شكل أحد أسباب تعثرها لكنه ليس الوحيد.
أما الصين، فخلال ما يقرب من مئة عام، أي منذ 1840، تاريخ اندلاع ما يعرف بحرب الأفيون التي شنتها ضدها بريطانيا، وحتى أواسط القرن العشرين، عانت الاحتلال الياباني لجزء من أراضيها ومن التدخلات البريطانية والروسية، واجتاحتها المجاعات والأوبئة كما شهدت اضطرابات وثورات أهمها ثورة التايبونغ التي رفعت شعارات التجديد على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي ونادت بالتحرر من القيم التقليدية الكونفوشيوسية.طالبت الصين بالمساواة بين الجنسين وبالتوزيع العادل للأراضي وباستبدال النظام الملكي بنظام جمهوري. ذلك أن قناعة تكونت لدى النخب الثقافية بأن الصين لا يمكنها النهوض ولا تستطيع مواجهة الأطماع الخارجية ولا الاضطرابات الداخلية إلا إذا تغيرت نظرتها لنفسها ونظرتها للتاريخ. في العام 1912 تحولت الصين من نظام ملكي إلى نظام جمهوري لكن بناء الدولة تعثر نظراً للمقاومة الشرسة للمحافظين ولمناهضي التحديث، فعرفت البلاد صراعات داخلية واضطرابات أدت إلى حركة 4 أيار 1919 حينما تظاهر آلاف الشباب في ساحة تيانمين، في بكين، رافعين شعارات مناهضة للتدخلات الأجنبية منادين بثورة ثقافية شًاملة، لم توفر الكونفوشيوسية التي اعتُبرت سبباً من أسباب الجمود والتخلف. كانت الصين في تلك المدّة مهددة بالتفتيت، منهكة اقتصادياً وعسكرياً وكان شعبها ضحية للجهل كما نقرأ في مقالة لماو تسي تونغ ذكرها معلوف في كتابه. مع ذلك، وعلى الرغم من المجازر التي وقع ضحيتها الشعب الصيني خلال الحرب العالمية الثانية، نجحت الصين التي خاضت الحرب الى جانب الحلفاء، حتى مع الصراعات الداخلية التي هددت استقرارها في الخمسينيات، في إيجاد طريقها إلى الاستقرار والتقدم؛ وهي اليوم قوة اقتصادية عظمى ولاعب أساسي في السياسة الدولية.يمكن القول إذن أن كلاً من اليابان والصين عانى الاحتلال ومن الأطماع الاستعمارية، والنزاعات الداخلية، إضافة إلى الحروب والمواجهات التي خاضها مع الغرب حيناً وضده حيناً آخر، لكنهما تمكنا من تجاوز ذلك كله، والدخول بثقة الى القرن الحادي والعشرين. بالمقارنة، ما زلنا في مشرقنا العربي خصوصاً أسرى السؤال الذي يعيد نفسه منذ عصر النهضة: لماذا تقدم الغرب وتخلّفنا نحن؟ وفي أغلب الأحيان يأتي الجواب مستحضراً نظرية المؤامرة ليعفينا من المسؤولية ومن عملية نقد ذاتي لا بدّ منها. صحيح أن جزءاً كبيراً من المسؤولية يقع على الأنظمة الاستبدادية التي تذرعت بضرورة المقاومة وإزالة الاحتلال عن أرض فلسطين لتعفي نفسها من واجب التنمية، لكن المشكلة تكمن أيضاً في ثقافة الشعوب العربية التي ما زالت خاضعة لتقديس الموروث، والديني منه بشكل خاص، غير قادرة على وضعه في ميزان النقد وعلى التحرر من الجمود بل من النكوص الذي يسهم في وضعها خارج التاريخ باعتبار أن الماضي يشكل النموذج الأكمل للخير والعدل والحق. ولعل من الشواهد على ذلك، رغم الحماسة التي أبداها المسلمون تجاه حركة الإمبراطور موشيتو الإصلاحية في منتصف القرن التاسع عشر، أن ظلت الشكوك تراودهم حول مشروعية الامتثال بمُصلح غير مسلم، لدرجة أن شائعات سرت في الصحف عن انعقاد مؤتمر في بكين العام 1906 يضم اصحاب الديانات المختلفة لكي يعرضوا محاسن ديانتهم فيتمكن موشيتو من اختيار تلك التي تبدو له الأفضل!خلاصة القول، أن الدين هو بلا شك عنصر أساسي من عناصر الهوية الثقافية الفردية والجماعية، لكن الهوية في جوهرها متحركة ومتحولة، تخضع لتغيرات الفضاء المكاني والزماني. لذلك لا بدّ للنهوض بالمجتمعات العربية حيث يشكل الإسلام الديانة الأوسع انتشاراً، من خلال ثورة على الذات وبإعادة النظر في الموروث لتحريره مما علق به على مدى العصور من أفكار وأحكام تحولت إلى مجموعة من العوائق تحول دون بناء مجتمعات متقدمة تؤمن بالعقل والحق والعدل وبإنسانية الإنسان.