يعرض درويش شمعة، لدى "غاليري شريف تابت" (الأشرفية، شارع عبد الوهاب الإنكليزي) ما يقرب من 40 عملاً تشكيلياً من أحجام مختلفة، تغلب عليها الأحجام الكبيرة والمتوسطة. نُفذت معظم الأعمال بتقنية الألوان الزيتية على القماش، إضافة إلى تقنية الباستيل الزيتي على الورق للأعمال الصغيرة، وقد اتخذ المعرض عنوان "ربيع وإنبعاث (أو نهضة)" Printemps Et Renaissance. اهتمام درويش شمعة بالمشهد الطبيعي كنا رصدناه في معرض سابق له يعود إلى عامين، وفي الغاليري نفسها، وربما لم يغب هذا الموضوع عن معارض أخرى سابقة بدورها. أقل ما يمكن أن يقال هو أن العَلاقة بالطبيعة، لمن دأب عليها، وربما أدمنها، كما هي حال الكثيرين، هي عَلاقة لامتغيّرة من حيث المبدأ. فهي لا تُلقّن، ولا تتم من طريق الإقناع، بل هي أشبه بشعور يرافق المرء المولع بالطبيعة طوال حياته. أما من لا يجد معنى لهذه العَلاقة، فسيبقى المشهد الطبيعي بالنسبة إليه عبارة عن أرض وسماء مع توابعهما وتفاصيلهما، ويعيش ضمنهما، ويراهما بعين محايدة لا أكثر ولا أقل.
يمكن القول، أنه كان تم الربط المتين بين هذا المشهد والرسم، على مدار تاريخ الفن والمشهد الطبيعي في شكل عام، وذلك لقرون، وتبعاً لكل عصر من العصور، كانت المناظر الطبيعية توضح الرؤى والحساسيات المختلفة للإنسان تجاه الطبيعة. وبالنظر لعلاقتها الوثيقة بالرسم، أصبحت المناظر الطبيعية نوعًا مستقلًا في العصر الحديث.لكن هذه المسألة اختلت مفاهيمها بعد بول سيزان مباشرة، عندما تحرّك الفن نحو التجريد، لتغيب عندها المناظر الطبيعية تقريبًا في الفن الحديث. لذا، يُطرح السؤال حول الرابط بين المناظر الطبيعية والرسم في العصر الحديث، وخصوصاً في الفن التجريدي. هذا الأمر هو من المسائل التي يحاول درويش شمعة معالجتها في معرضه الحالي، كما في معارضه السابقة.وعلى الرغم من كل الصعوبات، نجد رسوماً للطبيعة في الفن اللاتمثيلي. لقد تميزت لوحة القرن العشرين بذاك الحدث الكبير المتمثل في الانتقال من التمثيل إلى التجريد، واعتبر الفنانون أنّ التخلي عن التشخيص الأمين للواقع هو بمثابة تقدّم لا يقاس، وخطوة كبرى نحو الحرية المطلقة للعملية الإبداعية. لكن فجأة، وبالنسبة للمشاهد "العادي" الذي ألف الصور الشخصية والمناظر الطبيعية المنسجمة إلى حد بعيد مع الواقع الموضوعي، فقدت اللوحات معناها، وبدا أنها لم تعد تمثل أي شيء، ولم تعد تريد "قول" أي شيء. لقد كان من نتائج تلك الثورة الهائلة، والتي لا تزال آثارها محسوسة حتى اليوم، أن برزت حالة عدم الثقة التي لا يزال جزء من الجمهور يتعامل بها مع تيّار التجريد.
إذا كنا تعمّدنا ذكر هذا الواقع الفني، فمن أجل القول أن لوحة درويش شمعة حاولت تخطّي هذه الإشكالية، إن لم يكن من خلال الشكل، فمن حيث العمل على البنية واللون، من ضمن أمور أخرى. هذا، مع العلم أن العَلاقة مع الجمهور ستبقى دائماً في تواتر مختلف المستويات. ومع ذلك، فإن عدم وجود موضوع ملموس لا يعني عدم تمثيل أي شيء، كما هي الفكرة المنتشرة على نطاق واسع. على أننا لا يمكننا حقًا أن نتحدث عن اختفاء كامل للموضوع في أعمال شمعة، ولا عن رفض التمثيل في نهج الفنان التجريدي. إن استمرار هذا التمثيل داخل التجريد أمر لافت للنظر، لأن هناك مناظر طبيعية في هذا الفن الأقرب إلى التجريد، وهناك الكثير منها. إذ عندما ننظر إلى أعمال المناظر الطبيعية المجردة لدى شمعة، فإننا نفهم غريزيًا أن الفرق الحقيقي بين التصوير والتجريد يتمثل، واقعاً، بمسألة الوسائل المستخدمة. إن النهج المجرد يصف الأشياء نفسها كما في التصوير، ولكن بوسائل أخرى. وفي شكل عام، فإن محاولة التعاطي مع المشهد الطبيعي بطريقة مختلفة، كانت دفعت العديد من الرسامين إلى التركيز على الأشكال التي اكتشفوها هناك، وصُقلت في مقاطع متتالية. وهكذا، لم يعد التركيز منصبّاً فقط على الهندسة التي نشأت من بنية المناظر الطبيعي وعناصره، بل قام الرسام باستخراج الأشياء الشكلية من الطبيعة وعمل على إبرازها. ففي مواجهة الطبيعة، لا يكون الشكل هو الذي يفرض نفسه على درويش شمعة في البحث عن تعبير جديد، بل المشاعر التي نختبرها عند مواجهة أعماله، بعدما عبّر عن مشاعره على القماش من خلال تحرير الإيماءات والألوان، مع الاهتمام بشكل أقل بالخطوط العريضة للمشهد من وجهة النظر التقليدية، أكان ذلك من حيث المنظور، أم من حيث العمق والأبعاد التي يفترضها هذا المنظور.
لقد سمحت الأعمال التي تمثل الطبيعة، في شكل عام، من وجهة نظر تجريدية، بدمج موضوعات عديدة في اللوحة، إذ لم يعد الإخلاص للواقع بمثابة سجن للفنان، فقد أصبح قادراً على التفكير في تمثيل مفاهيم كانت حتى ذلك الحين غير قابلة للتمثيل. وهكذا أصبحت العناصر الأربعة (الماء، الأرض، النار، الهواء)، على سبيل المثال، التي استحضرت في السابق من خلال شخصيات رمزية، موضوعاتٍ يمكن تناولها ورسمها على نحو مختلف، وبطرق أخرى.ومع ذلك، فلا بد من القول أن معطيات المناظر الطبيعية تفقد أشكالها في الرسم التجريدي، لكن الإحساس والعاطفة التي نراها ونشعر بها لدى معاينة لوحة درويش شمعة، لم تختفِ. لقد جسّد الفنان هذه الأحاسيس في أشكال لونية، وهذه الأشكال، كما الألوان، هي التي تقود المتلقي إلى مشهد خيالي، وبالتالي إلى جو حميمي وفريد من نوعه. وفي الواقع، هناك تفاعل بين المناظر الطبيعية والرسم التجريدي: فالمناظر الطبيعية التي يلاحظها الفنانون ويختبرونها تلهمهم شعوراً وإحساساً يشعرون به، وهذا الإحساس هو بمثابة المفتاح لتوجيه المشاهد وتحريره، في سعيه إلى "الضياع" في منظر خيالي وحميم في الوقت نفسه.