قبل أي نزاع حدودي بين لبنان وسوريا، وقبل حزب الله وحكم الأسدين والثورة السورية وجبهة النصرة وانتخاب جوزاف عون وتنصيب أحمد الشرع رئيساً.. بل قبل الحروب اللبنانية كلها، كانت تلك الجرود والسهول "النائية" موطن زراعة حشيشة الكيف، والتهريب، ونزعة التمرد العشائري، والسكان الذين لم يتأقلموا يوماً مع مبدأ الحدود والانضباط وفق موجباتها، والانصياع لقوانين الدولة.
واقترن هذا بتفاوت تنموي مع المناطق الأخرى، للأسباب المذكورة آنفاً، مضافاً إليها ماضٍ من الإهمال الرسمي، لم يُتح استدراكه مع توالي الحروب والنكسات التي هشّمت الدولة وأضعفت قدراتها، وغيَّبت الاستقرار. وعلى هذه الحال، ما كان ممكناً إلا بقاء تلك المناطق مضطربة، تحكمها فوضى السلاح والأعمال غير المشروعة.ومنذ الثمانينات، كانت السيادة على تلك المناطق تتقاسمها وصاية سورية مخابراتية وأمنية لصيقة ومتغلغلة في الحياة اليومية، ونفوذ سياسي تام موزّع بين حركة أمل وحزب الله، وولاء عشائري وعائلي يسمو على أي قانون أو ولاء آخر. أما الدولة، فكان متاحاً لها فقط الدور الخدماتي بحده الأدنى.
وهذا العقد غير المكتوب، رعى على امتداد 40 عاماً مجتمعاً مسلحاً، تزدهر فيه أعمال العنف وتأليف عصابات الخطف، وسرقة السيارات، وزراعة الممنوعات، وتهريب البضائع، وتزوير العملات، والقتل باسم الثأر أو الشرف، وإن بدا هذا افتراء على شطر واسع من السكان "يحلم" بالخروج من هذه الوصمة.مع اندلاع الثورة السورية وتدخل حزب الله العسكري إلى جانب النظام، انطلاقاً من تلك المنطقة، وخوضه خصوصاً معركة القصير والقلمون، بالموازاة مع صعود تنظيمي "جبهة النصرة" و"داعش"، اللذين مارساً أعمالاً إرهابية وهددا الداخل اللبناني نفسه، عدا عن توغلهما داخل الحدود اللبنانية ومهاجمة القرى واحتلال الجرود والتلال.. بدا أن الحدود التي استباحها حزب الله ما عادت أيضاً محرمة على التنظيمات المسلحة السورية. وإذ انتهت معارك الجرود، ومن ثم "انتصر" الحزب والنظام السوري واستتب الأمر لهما لنحو عشر سنوات، نشأت شبكة اجتماعية وعسكرية واقتصادية، قوامها احتلال الحزب لبلدات وقرى ومزارع سورية، وإدارته لطرق ومعابر ومنشآت وقواعد ومخازن، ومشاركته للفرقة الرابعة (ماهر الأسد)، المنافع والمغانم المتأتية من أعمال زراعة المخدرات وتصنيعها وفرض الأتاوات والتهريب بالاتجاهين والإتجار بالنفط والسلاح، والتواطؤ مع العصابات التي راحت تزدهر تحت غطاء عشائري حيناً أو باسم "المقاومة" ودعم النظام "الممانع" الأسدي، وحماية خطوط المدد الإيراني، معظم الأحيان.ولا ننسى أيضاً، أن النظام السوري الساقط رفض مراراً وراوغ في ترسيم الحدود، وكانت المحاولة اللبنانية اليتيمة عام 2005، وفشلت حين قُتل المسّاح في الجيش اللبناني، عمداً على يد ميليشيا تابعة للمخابرات السورية.
كذلك، يتناسى اللبنانيون المسؤولية الثقيلة في شراكتهم بالمقتلة السورية. فحزب الله كان جزءاً لا يتجزأ من السلطة اللبنانية، ومتطوعوه بالآلاف كانوا عاملاً مؤثراً في الحرب السورية وما نتج عنها من مآسٍ، منها التهجير المليوني من أرياف دمشق وحمص وصولاً إلى حلب والبوكمال. وهذا لم يورث سوى الضغينة العميقة في نفوس أكثرية السوريين، خصوصاً منهم سكان المناطق المحاذية للحدود اللبنانية، الذين استولى حزب الله وموالوه على أراضيهم وبيوتهم وبساتينهم.. واتخذت تلك الضغينة طابعاً مذهبياً مشهوداً.وبطبيعة الحال، كان سقوط الأسد "هزيمة" إضافية وقاصمة لحزب الله، وكارثة اقتصادية لأهل التهريب والمخدرات وأعمال الخطف وتجارة السلاح وما شابه، وخسارة فادحة للممتلكات المستباحة وللمصانع المشبوهة. سقوط جلب معه خطر انتقام المنتصرين، أو على الأقل خطر إغلاق الحدود والتهجير من أماكن وقرى يقطنها لبنانيون في الداخل السوري، بسبب هويتهم وحسب.
وهكذا، ما بين نزعة عشائرية قديمة للتفلت من سيادة الدولة، ومشروع دويلة حزب الله، وما يكتنفها من سياسة القوة والعنف والاقتصاد الأسود، ونظام سوري مافياوي وإجرامي، وتداعيات حرب كارثية اصطبغت بطابع مذهبي.. تشكلت جغرافيا متفجرة، تصل إليها أرتال الجيش اللبناني اليوم برفقة صيحات شائنة، توصم الجنود اللبنانيين بالخونة والعملاء، فيما على الجانب الآخر من الحدود، تعتمل مخاطر حرب طائفية، تسعى إليها بقايا الفرقة الرابعة ورديفاتها، وتشجعها علناً دولة إقليمية "خسرت" سوريا وخطوط إمدادها، وتصاحبها إسرائيل بالابتهاج والغارات والمراقبة الصارمة.
وهذا كله من ثمرات احتقار الدولة الوطنية وازدراء الحدود.. والاعتصام بالسلاح والتهدج بالمظلومية والحرمان، وإلقاء المسؤولية على العدو.
في المحصلة، في تلك المنطقة، كما في جنوبيّ لبنان وسوريا، يرتسم مصير الدولة السورية الوليدة، ومشروع استعادة الدولة والسيادة في لبنان.