صدر عن دار النهار كتاب "مئة سوسنة/ نصوص من وحي الأخوين رحباني وفيروز" للزميل أسعد الياس قطان، هنا مقدّمة الصحافي سمير عطالله للكتاب:حوّل الرحابنة كلّ نصٍّ أو لحنٍ إلى شيء من سحرهما الفريد. هذّبوا نتوءات الشعر العامّيّ، وضبطوا بلاغيّات الشعر الفصيح، ومن ثمّ أحالوا كلّ شيء على صوت فيروز، تطلقه في جمال الأثير، وأثر الانتشاء. لو كان هذا الثلاثيّ في بلاد الهند وحضارة بوذا، لصار طبقة من طبقات النيرفانا. لكنّهم وُلدوا عندنا هنا، ما بين الوهاد وسفوح الجبال. وكما أدّب هؤلاء السحرة صخور لبنان وهم يرعون الماعز والأغنام، كان من عبقريّاتهم أن يرتقوا بكلّ ما يلمسون من شعرٍ ولحنٍ وما فوق الموسيقى. الكتابة عن الثروة الرحبانيّة تبدو سهلة مثل الاغتراف من عطائهم. لكنّها في الحقيقة سرابٌ مثل الاغتراف من الأنهار ليس من السهل أن تستوقفها، ومن المستحيل أن تستعيد أعماقها. فالنهر يمضي في سبيله مغنّيًا مرتّلًا ملحّنًا، يحمل من الأودية والسهول ما تحمّله إيّاه الطبيعة في عصفها أو في ربيعها. ويبقى للناس أن يمتّعوا الأنفس بمثل هذا التدفّق الطروب.في كتابه الجديد «مئة سوسنة: نصوص من وحي الأخوين رحبانيّ وفيروز»، يصبو د. أسعد الياس قطّان إلى تحدّي هذه النظريّة أو هذا الاعتقاد. ويرى إلى التراث الرحبانيّ رؤيته إلى اللاهوت بمعنى أن يفسّر السماويّ بالدنيويّ وأن يمزج بينهما، فتكون النتيجة، كما هي متوقّعة، سحرًا على سحر.هذا شأن معظم الذين قرّروا الملاحة في بحر الرحابنة؛ إذ أدركوا أنّهم دهشةٌ لا تنقطع وفرحٌ لا يُشبع. وفي مركب هذه الرحلة، يتوقّف المؤلّف في المحيط الرحبانيّ عند كلّ محطّة جوهريّة من أعمالهم الذهبيّة وسيرتهم المكوَّنة من سحر النشوء ودراما النهايات. ففي مقاله «ثلاثة وثلاثون عامًا على رحيل عاصي الرحبانيّ»، يذكّرنا الكاتب أنّ سيّد العائلة الغنائيّة أصابه المرض في التاسعة والأربعين، وغادر عالمه السحريّ في الثالثة والستّين، ليبقى من بعده توأم الأخوين منصور الرحبانيّ.. يؤلّف مسرحه ويكتب موسيقاه ويقلّد شقيقه ونفسه، كما لو أنّ عاصي لم يَغِب.يبحث أسعد الياس قطّان، كما لو أنّه في دراسة لاهوتيّة، عن الأركان التي شكّلت الثروة الرحبانيّة المتعدّدة. ويدلّنا – نحن الملايين – الذين أمضوا جزءًا من حياتهم يصغون ويطربون ويعشقون ويحزنون ويلتقون، يدلّنا كيف نعمّق تمتّعنا في العيش بين كلّ هذه الكنوز.
يخيّل إليّ أنّ التأريخ للفنّ هو أصعب فنون التأريخ. كيف يمكن أن تصف قطعةً موسيقيّةً وهي موسيقى، وأنت حبر وورق؟ كيف تردّد «صرلي شي ميّة سنة/ مشلوح بهالدكّان/ ضجرت منّي الحيطان/ ومستحيّة تقول» من دون أن تقول إنّه أجمل بيت شعر في الخليقة؟ صباح الخير يا كآبتي. صباح الخير يا فرح الأيّام ونجوم الليالي. هل تعرفين كم يترقرق صوتك على جانبَي العمر، من الصبا إلى عطب الحواس؟يعيدنا أسعد الياس قطّان إلى مدرسة السنديانة كي نتعلّم كيف نسمع فيروز من جديد. هذا طقس من الطقوس، سواء كانت تغنّي «بكوخنا يا ابني» لميشال طراد أو «أنا الأمّ الحزينة» ليسوع الذي سلّمه الإسخريوطيّ إلى طغاة الجلجلة.ما هذا التعويض الرائع أن يولد المرء في زمن عاصي ومنصور وشروق نهاد حدّاد! ما هذه التعزية الأبديّة المجّانيّة! شكرًا للدكتور قطّان على هذه الدروس في السيرة الرحبانيّة: بحث الأكاديميا وعشق الفنون، روحانيّة اللاهوت وفقه الحياة. وشكرًا أنّك كرّمتني بهذا التقديم.