بعدَ خُروجِ حاكمِ مَصرَفِ لبنان السيد رياض سلامة، من إدارةِ البنك المركزي، وبعدَ صُدورِ ونشرِ تقريرِ شركة التدقيق المالي "ألفاريز أند مارسال" ، الذي ذَكَرَ أنّ العملاتِ الأجنبية في مصرف لبنان، تراجعت بنسبةٍ كبيرةٍ، في الفترة ما بين 2015 حتى 2020. فخلالها، انتقل مصرف لبنان من فائض العملة الأجنبية البالغ 7.2 مليارات دولار أميركي، قبل عام 2015 إلى عجز بلغ 50.7 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2020، وانخفضت الأصول بالعملات الأجنبية بنسبة 18 في المئة، وانخفضت الأصول بالعملات الأجنبية المحتفظ بها في الخارج، من 35.8 مليار دولار أميركي في عام 2015 إلى 18.4 مليار دولار أميركي في عام 2020.كما أظهَرَ التقريرُ سلسلةً من الارتكابات المالِيَّةِ والسياسات الخاطئة، وكشف حجم الفجوة المالية في صندوق مصرف لبنان، وكُلفَة الهندسات المالية. وتضمّن تقرير التدقيق الجنائي أرقاماً تظهر للمرة الأولى، أبرزها أنّ كلفة الهندسات المالية بلغت 76 مليار دولار. لكن مصرف لبنان لم يعترف إلا بـ56 ملياراً فقط، كما ورد في الصفحة 88 من التقرير، باعتبار أن الباقي تكلفة مستردة أو قابلة للاسترداد. ورغم التوضيح، فإنّ شركة التدقيق لم تقتنع بملاحظات مصرف لبنان. وهذا الرقم يشمل كل العمليات التي توصف بالهندسات المالية التي تشمل كلفة فوائد وعوائد، خصوصاً علاوات سندات وشهادات إيداع، وبعضها استخدم في عمليات دعم رسملة مصرفية وإقالة من العثرات وتغطية خسائر بنوك و"سوابات"، وتبادل توظيفات بين الليرة والدولار وبالعكس، وقد استفادت منها المصارف في الدرجة الأولى، وكبار المودعين وكبار المستثمرين الماليين بدرجة أقل، وأتت تلك الكلفة في نهاية الأمر على حساب المودعين، فيما كان مصرف لبنان يخفي تلك الخسائر بميزانيته في بند "موجودات أخرى"، ثم ادعى أخيراً أنّ معظمها حصيلة كلفة تثبيت سعر صرف الليرة وتمويل الدولة.وقد زعم رياض سلامة انه لجأ إلى الهندسات المالية من أجل تصحيح العجز في ميزان المدفوعات، وهو زعم ثبت بطلانه، كما ثبت أن هذه الهندسات فضلاً عن ارتفاع كلفتها، كانت مضخة مالية لسحب الودائع بالدولارات الحقيقية، وسرقتها وتحويلها لصالح حسابات لدولارات وهمية (لولارات)، تم قيدها في حسابات أهل المنظومة السياسية والطائفية الحزبية وأصحاب المصارف وإداراتها، ثم تم تهريبها إلى الخارج، في عملية بونزي سكيم ponzi scheme، من يدخل فيها أولاً ويخرج باكراً، قبل الانهيار، يستولي فيها على أرصدة من يبقى داخل اللعبة ويتأخر بالخروج منها، وتقدر قيمتها في الفترة بين 2015 و2020 بـ38 مليار دولار أميركي.
ويضاف إلى ذلك حوالى 7 مليار دولار أميركي أخرجتها المصارف بعد أن قيدت في حساباتها أرباحاً (وهمية) وجعلتها استثمارات خارج لبنان.وبعد قيام حاكم مصرف لبنان بالإنابة د. وسيم منصوري بالإعلان عن توقف المصرف المركزي، عن تمويل المصاريف الجارية للحكومة، وبالامتناع عن استنزاف الاحتياط الإلزامي من العملات الأجنبية لمصرف لبنان، الذي لم يتبقّ منه سابقا إلا حوالى 7 مليار دولار أميركي ثم ارتفع اليوم إلى 10 مليار دولار، والوعد بالامتناع عن طبع الليرة من أجل سداد العجز في موازنة الحكومة.. بعد كل هذه المستجدات والوقائع تتبدى أسئلة جارحة وحازمة:
السؤال الأول: هل كان الانهيار الاقتصادي حتمياً؟
السؤال الثاني: إذا كان لا بد أن يحدث انهيار، هل كان قدراً أن يكون هذا الانهيار شاملاً كاملاً، بحيث نشهد في وقت واحد وبدفعة واحدة؛ 1) انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، و 2) امتناع الدولة عن تسديد ديونها بعد تفاقم مديونيتها، بسبب تراكم العجز في موازناتها، و3) إفلاس النظام المصرفي وتوقفه عن الدفع بعد نضوب سيولته النقدية، ثم 4) انهيار إدارات الدولة وملاكاتها، وتوقف الخدمات العامة، و5) إصابة أنظمة الصحة والاستشفاء والتعليم بالشلل والعجز!؟ وهل كان ممكناً حصر الأزمة في جانب واحد والحيلولة دون شمولها كل ناحية أو قطاع؟!
السؤال الثالث، إذا كان انهيار سعر صرف الليرة حتمياً، وتفاقم العجز في موازنات الدولة خطيراً، فهل كان ممكناً في ظل هذا الواقع تفادي انهيار النظام المصرفي، وبالتالي حفظ الودائع ومنع سرقتها أو تهريبها إلى الخارج وصونها كحق غير قابل للتصرف من غير أصحابها؟!
السؤال الرابع، إذا كان لا يمكن تفادي الانهيار المالي ومنع حدوثه، ألم يكن ممكناً على الاقل محاصرة أضراره وتقليص خسائره؟
السؤال الخامس، حدث الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي، وأفلست المصارف جميعاً، وتبين أن مصرف لبنان زوَّرَ قيودَه وخدع شعب لبنان وكل المقيمين فيه، وكل من وثق بنظامه المصرفي عربياً كان أم أجنبياً، وأعلنت حكومة حسان دياب عن عدم قدرتها على تسديد ديونها أو الوفاء بالتزاماتها المالية، لكنها في الوقت نفسه تبنت سياسة لدعم سلع استهلاكية على سعر دولار يساوي 1500 ليرة، فتم تبديد أكثر من 13 مليار دولار، من أموال المودعين، وشكل ذلك ستاراً لعمليات تهريب هائلة، ساعدت نظام الأسد على مواجهة قانون قيصر للعقوبات الأميركية، ومكنت مافيا المنظومة وحزب الله وماهر الأسد من تحقيق أرباح وصلت إلى حدود 7 مليار دولار. أليست هذه جريمة نهب موصوفة تستحق المساءلة والملاحقة؟!
السؤال السادس، حدث كل ذلك منذ أكثر من خمس سنوات تقريباً، فماذا فعلت المنظومة السياسية الحاكمة وحكومة ميقاتي القابضة على السلطة، للبدء بخطة تخرج لبنان من الأزمة؟وماذا اتخذت من إجراءات لعودة التعافي إلى الاقتصاد الوطني؟!
عملياً، لا شيء، فقد كلفت لجنة سالازار بتقديم خطة للتعافي فقامت بذلك، لكن سرعان ما ناقشتها لجنة مالية برلمانية برئاسة ابراهيم كنعان ونقضتها وجعلتها أمرا منسياً!
اتفقت مع صندوق النقد الدولي والتزمت بعدة إجراءات تجاهه، ثم نقضت تعهداتها ولم تفِ بأيِّ بند من التزاماتها! هذا ما أعلنه وفد صندوق النقد الدولي في زيارته السابقة للبنان.
لا تريد المنظومة خطة سالازار ولا تلتزم مطالب صندوق النقد الدولي، إذن أية خريطة طريق للخروج من الأزمة تطرحها المنظومة الحاكمة؟ ويمكن أن تتبناها الحكومة القابضة على السلطة؟
لا تكتفي المنظومة باستدامة الأزمة والتكسب منها، بل تدير لعبة الإفلات من المساءلة والعقاب، لا أحد مرتكباً، لا أحد مسؤولاً، وكل هذه الكارثة يحاولون قيدها ضد مجهول.أوليغارشيا المصارف تتستر بثوب البراءة خداعاً ونفاقاً، على الرغم من انكشاف فضيحة شركة فوري، التي أظهرت استيلاء الحاكم وأخوه وعائلته ومحظياته على مئات ملايين الدولارات، كأرباح وساطة بينه وبين منصبه الوظيفي، كما بينت الفضيحة الأخرى في شركة أوبتيموم تداول حوالى 8 مليارات دولار أميركي بأعمال وساطة وسمسرات لصالح الحاكم وحاشيته.
وعلى الرغم أيضاً من قيام حاكم المصرف المركزي بإنشاء منصة "صيرفة" التي بلغ حجم التداول فيها أكثر من 24 مليار دولار أميركي، وألحقت خسائر في رصيد مصرف لبنان ما يقارب 2 مليار دولار أميركي، ذهب القسم الأكبر منها إلى جيوب النافذين في حاشية أحزاب السلطة ورموزها.
لا تكتفي أوليغارشيا المصارف بإنكار أية مسؤولية لها عن ارتكابها جرائم مالية موصوفة، حسب قانون النقد والتسليف، بل تبرر كل ارتكاباتها، وتوقفها عن الدفع، بأنها مولت مصاريف الحكومة والدولة، وأن مديونية الدولة هو سبب عجزها عن رد الودائع. وتتضح النية الجرمية لهذه الأوليغارشية، ودرجة التواطؤ السياسي والقضائي معها، حين يتكشف أن ثمة خمسة بنوك على الأقل ليس لها ديون على الدولة أو أن حجم ديونها لا يتعدى حجم 10% من قيمة ودائعها، مع ذلك تمتنع هذه المصارف عن القيام بالتزاماتها تجاه مودعيها.. في حين يتلكأ القضاء عن إحقاق العدالة بشكل يثير السخرية وأبلغ درجات الغضب.ولذلك، تكتسب طبيعة التعيينات التي قامت بها حكومة القاضي نواف سلام، والتي ستقوم بها في القضاء ومصرف لبنان طابعاً خطيراً ومصيرياً. وهي أمام خيارين مفصليين، إما أن تكون لصالح تجديد سطوة منظومة الفساد والفشل، عبر استمرار المحاصصة بين الأحزاب الطائفية، أو تكون تقليصاً لقوة المنظومة ونفوذها.
لم تكتفِ أوليغارشيا المصارف بكل ما تقدم، بل إن أغلبية أصحاب المصارف وحاملي أسهمها، قد قاموا ببيع أسهمهم لمصارفهم، وأخذوا ثمنها من دولارات المودعين كقروض بالدولار الأميركي وحولوها إلى الخارج، ثم استعادوا أسهمهم بعد رد أثمانها بدولارات على سعر 1500 ليرة للدولار الواحد.
وللإجابة على الأسئلة السابقة والذهاب إلى استنتاجات محددة، لنفترض أن حاكم مصرف لبنان لجأ في نهاية سنة 2014 وبداية 2015 إلى الإجراءات التالية مجتمعة ومتلازمة:
الإجراءُ الأول: تخفيض سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي بحيث يصبح سعر الدولار 3000 أو 4000 ليرة.
الإجراء الثاني: اعتماد الخيار الذي لجأ إليه وسيم منصوري. وبذلك أوقف تمويل المصاريف الجارية للحكومة والاكتتاب بديونها، والامتناع عن طبع الليرة اللبنانية لسد عجز موازناتها.
الإجراء الثالث: تطبيق القيود على حركة الأموال والرساميل بشكل شامل وعادل، والذي اعتمده رياض سلامه نفسه بشكل انتقائي وفاسد.
الإجراء الرابع: إعلان تعثر الحكومة عن الدفع ووقف احتساب الفوائد.وواضح أن الإجراءات الأربعة قد تم تنفيذها منذ سنة 2019 وحتى تاريخه، وبشكل تارة تدريجي وطوراً بشكل اعتباطي أو اضطراري مشوه. ماذا لو لجأ مصرف لبنان لهذه الإجراءات متلازمة فيما بينها، ودفعة واحدة في نهاية سنة 2014 ومطلع 2015؟
سيجيب البعض من زبانية المصارف ورياض سلامة، إننا لم نكن نعرف أننا سنصل إلى ما وصلنا إليه. نعم، لم يكن يعرف الناس العاديون في نهاية سنة 2014 أنهم سيصلون إلى ما وصلنا إليه، لكن رياض سلامة كان يعرف، وأصحاب المصارف كانوا يعلمون، وكبار منظومة الفشل والفساد والارتهان للخارج كانوا يعلمون، وبعض من حاشياتهم أيضاً، وقد حذرهم في حينها مراراً وتكراراً صندوق النقد الدولي، لكنهم عقدوا العزم جميعاً، على خداع بقية الناس وتطمينهم، لكي يتاح لهم التربح والإثراء من انهيارٍ ممنهج ومقصود، انهيار أمّن لهم أكبر إعادة لتوزيع ثروة ثلاثة أجيال من الشعب اللبناني وسرقتها وتهريبها إلى الخارج. وهو انهيار كان يمكن تفاديه أو حصر تداعياته وتقليل خسائره، كما كان يمكن تأمين الخروج السريع منه واستعادة التعافي الاقتصادي للوطن وأهله.
(يتبع)