2025- 03 - 16   |   بحث في الموقع  
logo سوريا من "الحوالات" إلى "التكنيز" logo حكومة دمشق لن تستلم آبار النفط قريباً..ورقة قسد الآخيرة logo ماذا تقرع طهران: باب المفاوضات أم طبول الحرب؟ logo إسرائيل تتوغل وتحفر خندقا.. والبلدية تناشد logo الإنتخابات البلدية: مؤشرات صراع وتحالفات للانتخابات النيابية logo إفطار “صمود وتحدي” على ركام بلدة الخيام (فيديو وصوَر) logo أعاصير مدمرة تضرب ولايات أميركية وتحصد 13 قتيلًا logo احتلالٌ خارج "النقاط الخمس"... الجيش الإسرائيلي يحفر خندقًا جنوبًا
سوريا من "الحوالات" إلى "التكنيز"
2025-03-16 00:55:50

تروي لي جدتي، بصوتها الذي يحمل ذاكرة أجيال، حكاية أشبه بأسطورة منسية. تحكي كيف أن والدة جدي، التي لم تكن تخفي عداءها الشديد لها، رفضت حتى وهي على فراش الموت أن تفشي لابنها الوحيد سر مئتي ليرة ذهبية كانت تملكها. رغم توسلاته المتكررة، أغلقت عينيها للأبد، حاملةً السر معها إلى القبر.لكن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد. فقد تحولت حياة جدتي إلى رحلة بحث محمومة عن الكنز المفقود. حفرت الأرض، ونقّبت في الجدران، واستعانت بالسحرة والمشعوذين علّهم يرشدونها إلى موضع الذهب المدفون. لم تدّخر جهدًا، حتى أنها هدمت البيت بالكامل، ونثرت أنقاضه بحثًا عن حلم تحول إلى هوس. لكن الذهب ظل عصيًّا، وكأن الأرض ابتلعته للأبد. والأسوأ، أنها أنفقت ما كان بحوزتها على الدجالين والمشعوذين، لتجد نفسها في النهاية بلا كنز ولا مال، فقط بحكاية ترويها للأحفاد... حكاية عن كنز لم يظهر، وسرّ مات مع صاحبته.سردية جدتي لا تخصها وحدها ، بل هي جزء من ظاهرة عامة تجذّرت في العقلية الشعبية. وإلا، فما تفسير حفر عشوائية رأيتها في البيت الدمشقي الذي استأجرت إحدى غرفه خلال سنوات دراستي؟ جدران مثقوبة، أرضيات مخربة، ولوحات فسيفسائية شوهها البحث المحموم عن "جرات الذهب" والتحف الأثرية، التي قيل إن الدمشقيين كانوا يخبئونها في بيوتاتهم وقت الحروب. ولم يكن الأمر مجرد شائعات، إذ عُثر بالفعل على بعض هذه الكنوز، ما عزّز الهوس بالحفر والتنقيب.لكن التنقيب عن الكنوز لم يعد مجرد هوس فردي، أو فعل تحكمه الأساطير، بل تحوّل إلى ظاهرة اجتماعية لها دوافعها الاقتصادية والسياسية، كما هو الحال في درعا. بعدما حمل شبابها "البخاخات" وملأوا الجدران بشعارات معارضة للنظام، ابتكروا لأنفسهم شريعة خاصة: القوانين التي وُضعت في عهد النظام البائد لم تكن إلا وسيلة لمصادرة الثروات، وحان وقت استعادتها. ومع سقوط السلطة المركزية، انشغل كثيرون بالحفر والتنقيب، شأنهم شأن مواطنيهم في مختلف المحافظات السورية، وخصوصاً في ريف دمشق، حيث عاش الناس لعقود طويلة في فقر وحرمان.اليوم، في ظل الانهيار الاقتصادي الخانق، أصبح البحث عن الذهب المفقود وسيلة للنجاة، حتى لو كان الثمن تدمير الإرث الحضاري العريق لسوريا. فالجوع، قبل أن ينهش المعدة، يدمي القلوب، ويجعل الناس يركضون وراء السراب، غير آبهين بما يضيع من تاريخهم تحت معاول الفقر واليأس.. وهاهي محلات تفتتح رسمياً في دمشق خاصة ببيع الأدوات المستخدمة في عمليات التنقيب وبأسعار عالية جداً!سيارة "بيك آب" مجهزة، أداة حديدية تكشف باطن الأرض، وشاح يخفي ملامحك، وخرائط سرية تحمل إشارات غامضة... هذا كل ما تحتاجه لتنطلق في رحلة البحث عن الكنز، حيث تتحول الجبال والأراضي الوعرة إلى "جزيرة كنز" حقيقية، تمتلئ بالصخور المنقوشة برموز مثل العقرب، الأفعى، والنقاط، التي يُقال إنها مفاتيح تقود إلى دفائن قديمة مدفونة، منذ عقود أو حتى قرون.إنها مغامرة قد تمتد لأيام وربما لأسابيع، يقودها الأمل والشغف، ويؤججها الفقر والحاجة. البعض ينجح في العثور على الذهب والآثار الدفينة، لتبدأ بعدها رحلة جديدة لا تقل خطورة: تصريف الكنوز في السوق السوداء بعيداً من عَين القانون. أما الآخرون، فيعودون خالي الوفاض، لكنهم يتمسكون بحلم الضربة الكبرى في المحاولة المقبلة، مدفوعين بأساطير لا تنتهي حول ثروات تنتظر من يكتشفها، وسط واقع يزداد قسوة، حيث أصبح الماضي المجهول أملًا أخيرًا لمستقبل غامض.لم تعد حُمّى البحث عن الذهب مقتصرة على الحكايات والأساطير، بل تحوّلت إلى سوق سوداء نشطة تفتح شهية السوريين على شراء أجهزة تنقيب ثلاثية الأبعاد تُباع بأسعار باهظة عبر منصات التواصل الاجتماعي، وسط غياب أي رقابة قانونية. ومع تزايد الاهتمام، تشكلت مجموعات مغلقة في "فايسبوك" تحمل أسماء وهمية مثل "تحليل إشارات الكنوز"، حيث يتبادل المنقبون الخبرات والاستفسارات حول أفضل أساليب البحث وأحدث التقنيات المستخدمة.إلا أن الأمر لم يتوقف عند تداول المعلومات، بل أدى انتشار التنقيب غير المنظم إلى ظهور مسميات وظيفية جديدة، أبرزها "خبير أسياخ"، وهو الشخص الذي يدّعي القدرة على تحديد مواقع الكنوز باستخدام أدوات معدنية تقليدية أو تقنيات حديثة، ويرافق فرق التنقيب في رحلات محفوفة بالمخاطر. وتفيد تقارير محلية ودولية بأن العديد من المواقع الأثرية السورية تعرض للنهب والتخريب، ما يهدد ذاكرة البلاد الحضارية.هذه الرحلات، التي تتم في العراء وتستمر لساعات طويلة، لا تخلو من الأخطار الجسدية، مثل انهيار الحفر أو الاختناق داخل الأنفاق العشوائية، فضلًا عن الكوارث الثقافية الناجمة عن تخريب مواقع أثرية تعود لمئات السنين. ما بدأ كحلم بالثراء السريع، تحوّل إلى فوضى حقيقية تهدد التراث السوري، في حين أصبح ماضي البلاد الثمين عرضة للضياع بفعل المعاول الطامعة في ذهب دفين قد يكون مجرد وهم، لكنه مع ذلك، يواصل جذب مزيد من الباحثين عن فرصة للهروب من واقعهم المرير... حتى من جاء الى البلد في زيارات انضم الى ركب أصدقائه في البحث.على أرضٍ تختزن آلاف السنين من الحضارات، يسير السوريون اليوم مثقلين بأعباء الجوع والعوز، بعدما باتت البلاد تعيش واحدة من أسوأ أزماتها الاقتصادية. ومع انهيار قيمة الدولار، فقدت آلاف العائلات سندها الوحيد الذي كان يأتيها عبر الحوالات المالية من أبنائها الذين خاضوا رحلة البحر المحفوفة بالمخاطر، بعضهم وصل، وبعضهم ابتلعه الموج، ليُطلق على سوريا حينها لقب "بلد الحوالات".لكن حتى بعد سقوط النظام البائد، ظل الوضع المعيشي على حاله، رغم وعود الإصلاح التي لم تجد طريقها إلى التنفيذ. وبينما يترنّح المواطن السوري تحت وطأة الأزمات المتلاحقة، وجد البعض في التنقيب عن الكنوز مهربًا من الواقع، مستبدلين أحلام الاستقرار بلحظة أمل عابرة قد يقودهم فيها نقشٌ قديم أو إشارة على صخرة إلى ثروة مدفونة في باطن الأرض.إنها لحظة البحث عن الخلاص بأي ثمن. يلهث كثيرون وراء إشارات غامضة، غير عابئين بالمخاطر، ولا حتى بحقيقة ما إذا كانت هذه الكنوز موجودة فعلًا، أم أنها مجرد سراب جديد يُضاف إلى سلسلة الأوهام التي طاردها السوريون على مرّ العقود.وفي بلدٍ يختزن حضارات لا تُقدّر بثمن، يجد السوريون أنفسهم ممزقين بين كنوز الماضي وأزمات الحاضر. فهل يكون الحل في التنقيب تحت الأرض، أم في إعادة بناء ما فوقها؟ الجواب ليس في الذهب وحده، بل في مستقبل تُعاد صياغته بعيدًا من سراب الأوهام.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top