تناول العدد الثلاثين من مجلة "قلمون" قضية الدراما التلفزيونية السورية، مسلطاً الضوء على التوتر القائم بين التعبير الفني الحر والتوجيه السياسي، حيث كانت الدراما السورية حقلاً لإعادة إنتاج سرديات السلطة، وتم استخدامها طوال عقود كأداة لترسيخ قيم سياسية واجتماعية محددة، في الوقت الذي حاول فيه بعض صناع الدراما تحدي القيود عبر أعمال نقدية وجريئة.
وتمثل الدراسات المنشورة شهادة موثقة للفنانين والكتاب والممثلين، وضحوا فيها كيف تأثرت هذه الصناعة بالتحولات السياسية منذ ما قبل الثورة السورية وحتى اليوم، ويشارك في العدد مجموعة من الباحثين والمختصين.وتناول الباحث زياد عدوان كيف تحول المسلسل التلفزيوني السوري من وسيط ترفيهي إلى أداة ثقافية وسياسية، حيث استقطب المسرحيين والروائيين بفعل الاستثمارات الضخمة، ما أكسبه "شرعية ثقافية"، لكنها بقيت خاضعة لتوجيه السلطة، ما جعله وسيلة لإعادة إنتاج السرديات الرسمية بدلاً من أن يكون مساحة إبداعية حرة.ويركز البحث على دور المسلسلات التاريخية، مثل "أخوة التراب" و"حمام القيشاني"، في الترويج لرؤية النظام، حيث تم تصوير حزب "البعث" كقوة وطنية مخلصة، بينما تم تهميش التيارات السياسية الأخرى. كما أبرز البحث استثناءات قليلة، مثل "التغريبة الفلسطينية" للمخرج حاتم علي، الذي قدم رؤية نقدية جريئة، لكنها لم تكن القاعدة في الدراما السورية.وأشار البحث إلى أن انفتاح السوق الخليجي على الإنتاج السوري في التسعينيات أدى إلى تسليع الدراما، ما دفعها إلى تقديم محتوى تجاري يخضع لمتطلبات القنوات العربية أدى لتقليص النقد السياسي والاجتماعي، وأوضع تراجع دور المسرح والسينما في سوريا، ليصبح التلفزيون الوسيط الثقافي الأهم، ما دفع كثيرين إلى الانتقال للدراما التلفزيونية باعتبارها المنصة الوحيدة للوصول إلى الجمهور.وحلل البحث كيف حاولت الدراما السورية اكتساب شرعية ثقافية عبر تقديم حبكات درامية تحمل طابعاً نقدياً، لكنها ظلت مقيدة بقيود سياسية، ما جعلها في كثير من الأحيان وسيلة لتكريس النظام بدلاً من تقديم بدائل فكرية حقيقية.الكوميديا أداة للتنفيس واستثارة الوعي
وتناول بحث لمى العبد مجيد الدور المزدوج للكوميديا في سوريا، حيث تعمل كوسيلة ترفيهية للتنفيس عن المعاناة، وفي الوقت نفسه، كأداة للنقد الاجتماعي والسياسي. وأوضح البحث العلاقة التفاعلية بين الكوميديا والسلطة، وكيف تجاوزت بعض الأعمال المحظورات عبر السخرية غير المباشرة.وأشارت الباحثة إلى أن الأنظمة الشمولية أدركت مبكراً تأثير الكوميديا في تشكيل الوعي، فتم استخدامها كأداة لتفريغ التوترات من دون أن تتحول إلى دعوة للتغيير، وبرزت هنا أمثلة مثل "مرايا" و"بقعة ضوء"، التي انتقدت الأوضاع الاجتماعية ضمن "النقد المسموح"، مع التركيز على المسؤولين الهامشيين من دون المساس بالسلطة الفعلية. كما أوضحت كيف قدم "يوميات مدير عام" نقداً للفساد لكنه أبقى المشكلة محصورة في سلوكيات فردية، ما يعكس ضبط الكوميديا ضمن حدود لا تهدد النظام.واستعرض البحث تناول الكوميديا السورية لقضايا مثل الفساد الإداري والتفاوت الطبقي، كما في "عيلة خمس نجوم"، بينما ركزت أعمال أخرى مثل "جميل وهناء" على مشكلات سطحية.صراع القيم والأخلاق
من جهتها، ناقشت الباحثة باري علي دور الدراما السورية في تشكيل وصراع القيم والأخلاق داخل المجتمع، مسلطة الضوء على العلاقة المعقدة بينهما وتأثيرها على الوعي الاجتماعي. وفرقت الدراسة بين القيم، التي تتشكل عبر العوامل الاجتماعية والثقافية والتاريخية، والأخلاق التي تتجسد في السلوكيات الفردية والجماعية، متتبعة نشأتها في البيئة السورية وتأثرها بالموروث الديني والفلسفي والسياسي.وحللت الدراسة كيفية توظيف الدراما لترسيخ القيم أو التشكيك فيها، مستعرضة نماذج مثل "باب الحارة" الذي يعكس منظومة قيم ذكورية محافظة، مقابل "غداً نلتقي" و"الندم"، اللذين يقدمان خطاباً نقدياً حول القيم المجتمعية. كما أوضحت كيفية تغير تناول القيم الأخلاقية عبر الزمن حيث ركزت مسلسلات السبعينيات والثمانينيات على تمجيد القيم القومية، بينما اتجهت مسلسلات التسعينيات مثل "الفصول الأربعة" إلى معالجة قضايا اجتماعية أكثر واقعية.القوة الناعمة التي حاربت مع نظام الأسد
وبحث عبد القادر المنلا في دور شركات الإنتاج الدرامي والسينمائي في سوريا كأداة وظّفها النظام السوري لترسيخ خطابه الإعلامي والسياسي منذ أواخر القرن العشرين وحتى ما بعد الثورة السورية العام 2011. وركز البحث على العلاقة العضوية بين هذه الشركات والسلطة، وكيف استخدمت الدراما كوسيلة "للقوة الناعمة" لتوجيه وعي الجماهير، عبر تصوير سرديات محددة حول الوطنية والاستقرار وأعداء الداخل والخارج.واستعرض البحث أعمالاً مثل "باب الحارة" الذي عزز صورة ذكورية سلطوية تتماشى مع سياسات النظام، ومسلسلات تاريخية مثل "أخوة التراب" و"حمام القيشاني"، التي أعادت كتابة التاريخ وفق رؤية النظام. كما حلل دور شركات الإنتاج في دعم السردية الرسمية، مثل شركة "أنزور للإنتاج الفني" التي قدمت أفلاماً دعائية، منها "رجل الثورة" الذي برر مجزرة الكيماوي في الغوطة، إضافة إلى شركات "الشام للإنتاج" و"لين للإنتاج" و"قبنض للإنتاج"، التي مولت مسلسلات تخدم الرواية الرسمية.حضور التاريخ السياسي
من جهته، تناول الباحث بسام سفر كيفية تصوير التاريخ السياسي السوري في الدراما التلفزيونية، موضحاً أن هذه الأعمال لم تكن مجرد انعكاس للماضي، بل استخدمت سياسياً للتأثير على الرأي العام، وحلل البحث المراحل التاريخية التي غطتها الدراما وكيف تم تشويه بعض الأحداث لتتماشى مع السردية الرسمية للنظام.وأشار البحث إلى أن الأعمال التي تناولت الفترة العثمانية، مثل "أخوة التراب" قدمت صورة سلبية للوجود العثماني بما يتوافق مع الرؤية القومية البعثية، بينما ركزت مسلسلات مثل "حمام القيشاني" على نضال "البعث" ضد الانتداب الفرنسي، مبررة وصول الحزب إلى السلطة، مع تهميش المراحل الديموقراطية لصالح إبراز حكم الأسد الأب والابن كفترة استقرار وتقدم.أما الوحدة السورية المصرية، فقدّمت كمرحلة فاشلة في مسلسلات مثل "نهاية رجل شجاع"، لغرض واحد هو تبرير الانقلاب الذي أوصل "البعث" إلى السلطة.قراءة في مستقبل الصناعة
وشكل البحث الذي أعدّه إبراهيم الجبين بعنوان "مستقبل صناعة الدراما التلفزيونية السورية بعد سقوط نظام الأسد" نقطة انطلاق لفهم التحولات التي قد تطرأ على الصناعة الدرامية في سوريا ما بعد النظام الحالي. وأثار البحث تساؤلات جوهرية حول إمكانية تحرر الدراما من قبضة التوجيه السياسي، ومدى استعداد صناع الدراما لإنتاج أعمال تعكس هموم السوريين من دون رقابة أو إملاءات سياسية.وتم تحليل أعمال عديدة بوصفها مؤشرات على التحولات التي شهدتها الدراما، ومنها مسلسل "الفصول الأربعة"، الذي يقدم نموذجاً للدراما الاجتماعية المتوازنة قبل أن تتحول الصناعة إلى ساحة للرسائل السياسية الموجهة، و"الولادة من الخاصرة"، الذي كان من المحاولات الجريئة التي وضعت الأجهزة الأمنية في موقع المساءلة، لكنه لم يسلم من التدخلات الرقابية التي حاولت تقليم حدته في الأجزاء اللاحقة.يعرض البحث أيضاً كيف أن مسلسل "دقيقة صمت" مثل نموذجاً لمسلسل يحاول الظهور كعمل نقدي، لكنه في جوهره قدم الأجهزة الأمنية كضحية لمؤامرات داخلية، متجاهلاً دورها الأساسي في القمع.إعادة تشكيل الخطاب الديني
وفي بحثه "الدراما السورية ومحاولة إعادة تشكيل الخطاب الديني في زمن نظام الأسد"، أوضح إبراهيم الجبين كيف أن النظام السوري لم يترك مساحة للإعلام والدراما لتقديم صورة متوازنة عن الدين، بل عمل على استخدام هذه المنصات لترسيخ صورة محددة تتماشى مع مصالحه.وفي البحث، يتم تناول مسلسل "ما ملكت أيمانكم" كنموذج لمسلسل قدّم التدين بوصفه مدخلاً للتشدد والتطرف، من دون معالجة الأسباب العميقة التي قد تؤدي إلى ذلك، بينما حاول "وردة شامية" توظيف الرموز الدينية بشكل يؤدي إلى ربطها بالسلوك الإجرامي والخداع.الدراما كأداة رقابة وتوجيه
إلى ذلك، يقدم الباحث فارس الذهبي دراسة معمقة حول صراع القيم والأخلاق في الدراما السورية، متتبعاً كيفية تحول المسلسلات التلفزيونية إلى أداة للتوجيه السياسي، والأخلاقي، والاجتماعي، بحيث باتت تلعب دوراً في ترسيخ قيم معينة وتغييب أخرى.وحلل البحث كيفية توظيف الرقابة في الدراما السورية لقمع أي طرح يخالف توجهات النظام، حيث شهدت بعض الفترات، مثل 2015-2017، مرونة نسبية سمحت بطرح نقد محدود كما في "الندم"، بينما تم تشديد الرقابة بعد أحداث كاغتيال رفيق الحريري (2005) وحرب تموز (2006)، ما أدى إلى منع أعمال مثل "أيام الولدنة".وأوضح البحث كيف صورت السلطة كرمز غير قابل للنقاش، مع تلميع صورة القضاء والأجهزة الأمنية في مسلسلات مثل "الولادة من الخاصرة"، رغم تهميش القضاء في الواقع. كما تم تضخيم النهايات السعيدة، مثل مشاهد اعتقال الفاسدين، لإعطاء انطباع زائف بوجود عدالة، رغم أن الواقع معاكس كلياً.واستخدم الباحث مفهوم "التطهير" الذي صاغه أرسطو، موضحاً كيف يتم إخضاع المشاهد عاطفياً عبر تقديم شخصيات تعيش مآسي تدفع الجمهور للتعاطف، ثم الشعور بالراحة لأنه لم يواجه المصير ذاته. كما في مسلسل "كسر عضم"، حيث يتماهى المشاهدون مع الشخصيات المعارضة لكنهم يخشون مواجهة نفس المصير، وفي "الطين الأسود" و"الولادة من الخاصرة"، تستخدم مشاهد التعذيب لترهيب الجمهور ومنعه من التفكير في المعارضة.وحلل البحث كيف صنعت الدراما السورية "عدالة وهمية"، حيث تنال الشخصيات المظلومة انتصاراً في النهاية، كما في "ضبوا الشناتي" و"أحمر"، ما يمنع الجمهور من التفكير في تغيير جذري حقيقي، في وقت كانت فيه المسلسلات التاريخية دائماً خاضعة للاعتبارات السياسية، مثل "أخوة التراب" الذي صوّر الدولة العثمانية كقوة احتلال لتعزيز السردية القومية البعثية، و"رجال الحسم" الذي قدّم صورة بطولية للأمن السوري في مواجهة إسرائيل، رغم التناقض مع الواقع.التحديات بعد سقوط النظام
ونظم القائمون على المجلة ورشة عمل بعنوان "مستقبل صناعة الدراما التلفزيونية السورية بعد سقوط نظام الأسد"، جمعت شخصيات من مجالات الدراما والإعلام والإنتاج التلفزيوني، إلى جانب أكاديميين ومفكرين مثل محمد العمر وجمال سليمان وواحة الراهب ومأمون البني ودوناتيلا دي لارينتا وعلي سفر وفارس الحلو ونوار بلبل.وناقشت الورشة مستقبل الدراما السورية في ظل التحولات السياسية والاجتماعية، مسلطة الضوء على التحديات التي تواجه القطاع بعد عقود من الرقابة والاحتكار الحكومي، وتناولت إمكانية نشوء دراما مستقلة بعيدةً عن التوجيه السياسي، والبحث عن مصادر تمويل جديدة لضمان الحرية الإبداعية.