استلمت هيئة تحرير الشام السلطة في سوريا بعد إسقاط الأسد وفراره في الثامن من كانون الأول/ديسمبر. وكما صار معلوماً، وفق سردية معممة، قدّمت الهيئة وجهاً معتدلاً جداً بالقياس إلى ما هو متوقّع من تنظيم إسلامي جهادي، نشأ زعيمه في أحضان الجهادية التي حاربت الأميركان في العراق، وتميّزت مع نظيرتها الشيعية بأعمال عنف طائفية شديدة القسوة. بدورهم، قدّم عناصر الهيئة في الأسابيع الأولى نموذجاً جيداً على الانضباط واحترام المدنيين، ونالوا الإشادة على ذلك في مناطق التنوع الطائفي، خصوصاً في مناطق يغلب عليها المنبت العلَوي.سلوك عناصر الهيئة، وقياداتها من خلفهم، كان مهماً لسببين، الأول منهما صدوره عما فُهِم كابتعاد عن الأيديولوجيا الدينية للهيئة، والعلويون بموجبها مارقون دينياً عن الإسلام الصحيح "السُني". أما الجانب الذي لا يقل تأثيراً فيختزله تعبير "النظام النصيري"، وهو تعبير كان معتمداً في "دولة إدلب" التي حكمتها الهيئة بقبضة من حديد على مختلف المستويات، بما فيها المستوى التعليمي الخاص بتنشئة الأجيال الجديدة، أي أن هناك بين مقاتلي الهيئة من تشرّب تعبير "النظام النصيري" بوصفه اختزالاً لطائفة مارقة دينية ومجرمة (على الأقل) سياسياً، لذا كان لسلوكهم الطيب مغزى إيجابياً مركّباً.
قائد هيئة تحرير الشام، الذي ظهر باسمه الحقيقي، راح بدوره يرسل الإشارات التي تتضمن طي صفحة "أبي محمد الجولاني"، وهو لقبه الذي كان معتمداً وشائعاً في إدلب. وتحدث مبكراً عن الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة، على نحو أراد من خلاله طمأنة قسم من السوريين، وتهدئة البعض الآخر المتعطّش إلى إجراءات راديكالية يريد من السلطة الجديدة اتخاذها.تحولات السيد الشرع نالت اهتماماً واسعاً جداً بوصفها دليلاً إلى تحول أعمّ في فكر الهيئة وسلوكها، بل صار الاهتمام مفرطاً في الشكلانية من خلال متابعة دقيقة لما يلبسه ولطول لحيته ومغزى لون ربطة العنق التي يرتديها. وما بدأ على أنه اهتمام بدوافع سياسية انزلق بمعظمه إلى ما يمكن تشبيهه بتقديس الفرد، وأحياناً بلغة مشابهة للغة تقديس الفرد التي استخدمها موالو العهد البائد، حيث يهمِّش تقديس القائد (الفرد) مَن حوله في السلطة أولاً، فلا تؤخذ أقوالهم أو أفعالهم بجدية، ويُعامل كما يُعامل غلاة المعجبين نجمهم؛ بمحبة غير مشروطة بمطالب سياسية محددة أو ببرامج ونتائج ملموسة. لقد وصل الأمر بجريدة حكومية إلى نشر مقال عمّا يجتذب النساء في شخصية السيد الشرع!
الاهتمام بالقائد، متضمناً بوادر عبادة الفرد، لم يكن في الشهور الثلاثة الأخيرة صناعةً إسلامية. على العكس، يمكن الجزم بوجود نسبة كبيرة من المتدينات والمتدينين الذين لم يتورّطوا فيها، لأن إيمانهم العميق يردعهم عمّا في تقديس الأفراد من شبهة الشرك. هذه الصناعة مدفوعة بأمرين؛ واحد منهما هو النزوع إلى البحث عن بطل منقذ خارق، وقد تحقق هذا لأصحابه على نحو مشابه للأفلام التراجيدية ذات النهاية السعيدة غير المتوقعة. أصحاب هذا النزوع لا يريدون التمعّن في سياق الأحداث التي أدّت إلى التغيير الكبير في دمشق، بل يرفضون ذلك عمداً.النزوع الثاني المتمم للأول هو الملمح الطائفي، فالبطل المنقذ هو ابن الطائفة المظلومة، وها هو قد انتصر لها أخيراً. وفق هذا التصور، ثمة مظلومية سنية، تعرّض أصحابها للإبادة والتهجير منذ عام 2011، وحانت أخيراً لحظة الانتصار. إلا أن لحظة الانتصار ليست تدشيناً لتراخي عصب المظلومية السُنّية، بل إن كثراً من المنضمين مؤخراً إلى العصبوية السُنية لم يكونوا يفصحون عنها من قبل، ونسبة منهم كانت تعلن عن عدائها لأيديولوجيا هيئة تحرير الشام وكل ما تمثّله الهيئة.
السُنّيّون الجدد، إذا جاز التعبير، هم سُنّيّو السلطة الجديدة، وقد حلّوا مكان الموالاة القديمة وبالمفردات اللغوية والبصرية ذاتها في معظم الأحيان. إنهم طائفة سلطة أكثر بكثير مما هم طائفيون في الأصل. ونستطيع القول أن السنيون الجدد ساروا بعكس التحولات المعلنة لهيئة تحرير الشام، فإذا كانت مقتضيات السلطة قد جعلت الهيئة أكثر اعتدالاً فإن استلام الهيئة السلطةَ جعلهم أشد تطرفاً، أو بالأحرى جعلهم يقطعون الطريق سريعاً من موقعهم غير الإسلامي إلى محاولة تصدّر الخطابات الطائفية على السوشيال ميديا.يجوز القول إن الإسلاميين استثمروا في المسألة الطائفية للوصول إلى السلطة، أما السُنيون الجدد فهم متطوعون طائفيون، مدفوعون بما هو انتهازي رخيص أحياناً، إذ يعتقدون أنهم يرضون السلطة. وهذا بالتأكيد شيك على بياض قد يصعب رفضه من الأخيرة إن لم يكن استخدامه مغرياً فوراً. وهناك بينهم من لا يدفعه جشع انتهازي، بل يكفيه وهم امتلاك السلطة، وهو ما يذكّر بطائفيين علويين كان لديهم وهم مماثل أيام الأسد، ولا عجب في أن نظراءهم السُنّة لم يتعظوا من الدرس والمآل.
اليوم هناك نسبة، هي الأكبر على نحو صريح من السُنيين الجدد، والذين ليسوا مسلمين على ما توحي به هذه الكلمة من صورة نمطية في حقل السياسة. نتحدث عن فئات متنوعة، بينها المحافظ والمتحرر اجتماعياً، ومعظمها لا يُبدي مظاهر ملحوظة من التدين، بل يشهر البعض منها كونه لادينياً. هذه الفئات، على تنوعها، لم تتورع عن توزيع صكوك انتماء تحت يافطة: إنهم يشبهوننا. والحديث كان عن ملامح السيد الشرع وزوجته، وأتى أيضاً في سياق جدل حول النقاب، وحول تعيين مسؤولة عن شؤون المرأة. ولا يخفى ما يوجد في هذا التنميط من غزل للسلطة الجديدة، ومن إنكار ونفي لسوريين آخرين لا يشبهونها شكلاً وفق هذا الزعم، كما لا يخفى البعد الطائفي المستتر تحت هذا التنميط، وقد شهدنا مثيلاً له أيام الأسد: توّجه هو نفسه بالحديث عن مجتمع متجانس.بعض الذين انفتحت شهيتهم مؤخراً على الحديث في المسألة الطائفية هم أيضاً من السنيين الجدد، وهم يحتسبون كل من لا يشاطرهم الرأي بحذافيره منكراً للطائفية ينبغي إقناعه، من دون أن يعبّروا عن أية حساسية تتعلق بالمرحلة الانتقالية الراهنة، على الأقل حتى تستتب الأوضاع في البلد، ويُشرع في العدالة الانتقالية، العدالة التي لا تقتصر على محاكمات المتهمين فقط، وإنما تتضمن محاكمة الإرث السابق كله بهدف عدم تكراره نفسه أو مقلوباً. والمستتر لدى البعض منهم على الأقل هو عزمهم على تكرار الماضي مقلوباً، وهذا فحوى استرجاع ذكريات دموية من الماضي القريب أو الأبعد لتبرير ما يقولون إنه مجرد تجاوزات للسلطة الجديدة.
إنهم عرب بدرجة أقل ربما مما هم سُنة، فالعروبة تُدفع إلى الصدارة فقط بعدّها من لوازم مواجهة الأكراد غير المنضوين حتى الآن تحت إمرة السلطة الجديدة. ومن المحتمل جداً أن الكثير من السنيين الجدد قد أضناهم وأدماهم موقع المهزوم الذي بدا حكراً عليهم لوقت طويل، أو على ما يمثّلون، ويحتاجون إلى اختبار النصر الذي حصلوا عليه، بما في ذلك اختباره بالقوة والبطش. وسيكون من الصعب عليهم القبول سريعاً بأن المظلومية والسلطة لا تجتمعان، وأنهم الآن أهل سلطة لا ينازعهم عليها أحد، والنزاع الوحيد على طبيعتها لا على مَن يكون على رأسها. أيضاً، من الصعب عليهم التخلّص سريعاً من فكرة المؤامرة الكونية على السُنّة، والنظر بواقعية إلى حدث التحرير كانقلاب في المواقف الدولية له أبعاده الإقليمية والدولية، ولا توجد قوة داخلية قادرة على تغييره.حتى يحدث ذلك، سيبقى التناقض، وقد يشتد، بين ادّعاء تمثيل الوطن السوري وبين تمثّل عصب طائفي يبقى محدوداً رغم أكثريته، وسيبقى التناقض نفسه بين اشتداد العصب الطائفي والقول إن السُنة في سوريا هم الأمة، بمعنى أنهم قادرون على استيعاب المختلف وجاهزون لذلك. على هذا تأخذ المطالبة بالعدالة أهمية استثنائية، لأنها كفيلة بوقف التحريض الذي يتغذّى على غيابها أو يتذرّع به، ولأنها السبيل لفتح جراح السنوات الماضية بقصد المعالجة لا زيادة الاحتقان، ولأنها ترياق ضد المنهمكين في صنع وثن السلطة.