"تمر الأياملكن لا يوجد أبداًليل ولا نهارلذلك الذي كان فجره أزلاً"كمال جنبلاط - من قصيدة الأزل ١٦ آذار ١٩٦٤
تتسارع وتيرة الأحداث في هذه الأيام إلى درجةٍ تبلغ حدّ اللامعقول على الرغم من أنه في بديهيات السياسة وعلمها لا يوجد ما هو مستحيل. ويحتاج المرء لكثيرٍ من التأنّي والتروّي والتبصّر في مجريات هذه الأحداث المتسارعة، وفي معاني ومضامين التصريحات من هنا وهناك، لكي يتبيّن حقيقة الصورة، أو أقله أن يتلمّسها، ولهذا لا يمكن راهناً الاستعجال في الحكم عليها إيجاباً أم سلباً.
لكن فوق كل ذلك، لا يمكننا إغفال مشاعر حقيقية صادقة طفت وتطفو إلى واجهة التعبير حينما تحقَّق بعضاً من الأهداف التي كانت ربما بمثابة الأحلام. وفي هذا الصدد يأتي الانفعال العاطفي المباشر الذي تصدّر الرأي العام والمشهد السياسي والشعبي بعد سقوط النظام السوري السابق، وانتهاء حكمٍ من الظلم والقهر امتد لعقودٍ طويلة طالت الشعبين السوري واللبناني وسواهما ممن لم يرق لمصالح النظام البائد.
مناسبة استعادة الحديث عن سقوط نظام الأسد في سوريا بعد نحو أربعة أشهر على ذلك، تعود إلى أمرين اثنين:
الأول، ذكرى استشهاد المعلم كمال جنبلاط الذي اغتالته مخابرات النظام السوري السابق في ١٦ آذار ١٩٧٧، وتزامن هذه الذكرى مع توقيف المخطِّط والمرتكب الرئيسي لجريمة الاغتيال قبل أيام. والثاني، تطورات المشهد السوري راهناً، ساحلاً كما في جبل العرب.المسار السلمي هو الحلفي الأمر الثاني، يتسع المجال لأحاديثٍ وتحليلات وتفسيرات، وربطها بتدخلات الخارج المستمرة على الساحة السورية، والتي يحتاج الحُكم الجديد في سوريا إلى وقتٍ ليس بقليل لكي ينجح في التعامل معها والتصدي لها، بموازاة عملٍ حثيث في الداخل يعتمد المسار السلمي لتقريب كل وجهات النظر السياسية، وطمأنة جميع مكونات الشعب السوري، وضمان وحدة سوريا تحت سقف الحرية والكرامة التي قامت الثورة لأجلهما، وفي الوقت نفسه الحزم في منع العودة إلى أي شكل من أشكال القمع والتعسف بذات القدر من الحزم الواعي لمنع فلول النظام السابق من ضرب فرصة الحياة الجديدة في سوريا.
وتحت هذه الضوابط، تبقى القيادة السورية الجديدة أمام تحديات عديدة، أخطرها على الإطلاق مخطط التقسيم - القديم الجديد- الذي يخبو مرات ويعود مرات أخرى، وللمفارقة طبعاً فإن كمال جنبلاط كان طليعياً في التصدّي لهذا المشروع وإسقاطه في ستينيات القرن الماضي.وهذا يعيدنا الى الأمر الأول، إذ تصادف هذا العام ذكرى استشهاد كمال جنبلاط، وكونها لأول مرة تأتي بعد سقوط النظام الذي اغتاله وبالتزامن مع توقيف المجرم الرئيسي في الجريمة، فهذا يعطيها قيمة إضافية اسثتنائية تضاف إلى استثنائية صاحبها، ويحفّز على ضرورة التمسك والإصرار في هذه المرحلة بالذات على موقف كمال جنبلاط الرافض للتقسيم والتفتيت الطائفي، وضرورة إحياء ذكراه عبر إحياء الوعي في وجه المخططات التي ناضل ضدها، والعمل مجدداً لإسقاطها. وها هي تطل من جديد محاولات ضرب الهوية العربية لمكوّنات شعوب المنطقة وتحويلها إلى قوميات مُختلَقَة متناقضة تبرر المشروع الاسرائيلي الذي لم يمت، والهادف هذه المرة الى الدخول من بوابة الواقع السوري الناشئ، وطرح عناوين مُخادعة عن حقوق هذه الفئة او تلك، وحماية هذه الشريحة من تلك، وتمرير مخطط التقسيم في سوريا أولاً، وانتقالاً لاحقاً إلى المنطقة بأسرها، التي قد تصبح أكثر فأكثر أسيرة المخططات الإسرائيلية التي نراها تطال مختلف دول المنطقة من مصر إلى الأردن، فالسعودية، وسوريا، وصولاً إلى لبنان، وطبعاً في قلب كل ذلك محاولة إنهاء كل أشكال الحديث عن فلسطين.جنبلاط والتصدي للمشروع التقسيميفي هذا السياق ينبري وليد جنبلاط للتصدي لهذا المشروع التقسيمي ويرفع بمفرده راية الوعي في وجه ما يحاك للجنوب السوري. ولهذا السبب يتعرض وليد جنبلاط الواقف على ناصية المواجهة لحملات مضادة ممنهجة. لكنه بكل حال اعتاد المواجهات، واعتاد التحديات، وفي الوقت نفسه امتهن النجاح في مواجهتها، وتحقيق النصر، بالصبر، والصمود، والنضال المستمر. وينبغي للجميع السير تحت لواء المواجهة التي يقودها ضد مساعي الدفع بالمنطقة إلى التهلكة.
المطلوب إذاً شحذ الهمم وإذكاء الوعي وتلاقي الإرادات وتشكيل جبهة عريضة لإسقاط هذا المشروع. هكذا فعلاً نعطي كمال جنبلاط انتصاراً جديداً، يضاف إلى انتصاره على قاتله. بالفعل لقد انتصرت دماء كمال جنبلاط وروحه ونهجه وقيمته بكل الأبعاد الإنسانية والفلسفية والفكرية والسياسية والوجدانية على القاتل الذي انتهى إلى زوال، فيما بقي المعلّم حياً لا يموت.
ولعلّنا في هذا المجال نستعير كلاماً لكمال جنبلاط، قاله كأنه كان يصف به قاتله: "هو في ظلماتٍ ... فوقها وتحتها ظلمات، هو الدفين الحي.. قبرٌ لجسدٍ عفن..". ونستعيد من كلام المعلّم أيضاً حين قال: "نحن في النهاية لم نخسر.. ولكن النظام السوري هو الذي خسر وسيخسر كل شيء" - من كتاب "لبنان وحرب التسوية"... وها نحن اليوم نقول للمعلم: "نعم خسر النظام السوري كل شيء، أنتَ انتصرت، وانتصرنا معك".
ولأنّ حفظ هذا الانتصار أمانةٌ لا يمكن التفريط بها، فإنّ المسؤولية التاريخية تقتضي أن يُصان أولاً من البوابة السورية بحفظ وحدة سوريا وقطع الطريق على التقسيم القادم إليها من الجنوب والساحل، وهذه مسؤولية مشتركة على أبناء الجنوب والساحل وعلى الحكم السوري الجديد. وثانياً من البوابة العربية عبر التصدي الحاسم والجامع لخارطة التقسيم التي متى بدأت في سوريا لن تعفي أحدا من العرب. هكذا فقط يبقى الانتصار انتصاراً وتبقى فكرة كمال جنبلاط حيّة على الدوام.