في خطوة يؤمل أن يكون لها أصداؤها على السّاحة الشماليّة، احتضنت دارة الرئيس نجيب ميقاتي في محلة الميناء - طرابلس لقاءً سياسيًّا موسّعًا، بهدف البحث في تداعيات الأحداث الدامية الّتي شهدتها المناطق الساحليّة السوريّة على الداخل اللّبنانيّ عمومًا، وعلى شمال لبنان خصوصًا.ويمكن القول إنّ اللقاء حمل رسائل متعدّدة الأوجه، وأظهر الرغبة في توحيد الموقف السياسيّ والروحيّ الشماليّ، بما يعكس الحرص على منع تحوّل طرابلس والشمال إلى ساحةٍ لتصفية حساباتٍ إقليميّةٍ أو محليّة. وبرغم غياب بعض الشخصيّات، تميّز اللقاء بالمرونة والانفتاح على كافّة المكوّنات، في وقتٍ ظهرت فيه دعواتٌ صريحةٌ لدعم الدولة السوريّة وضمان وحدة أراضيها، وهو ما يعكس قناعة المجتمعين بأنّ استقرار سوريا شرطٌ لازمٌ لاستقرار لبنان. كان لافتًا غياب بعض الشخصيّات البارزة، ومن بينها النائب أشرف ريفي الذي فضّل عدم التصريح بشأن أسباب تغييبه، فضلاً عن غياب آخرين بداعي السفر ومن بينهم أعضاء "اللقاء النيابيّ المستقل". كما كان لافتاً عدم مشاركة مشايخ الطائفة العلويّة خصوصاً وأن الاجتماع الذي بحث في تداعيات الوضع في سوريا أفضى الى "إعلان طرابلس" الذي دعا إلى التمسك بسيادة الدولة واستكمال تطبيق الطائف، ومعالجة تدفق النازحين السوريين والتحذير من التورط في مواجهات أهلية.
الغيابات المُلفتةفي اتصال مع "المدن" رفض النائب جهاد الصمد، منح أبعاد سياسية لغياب المشايخ العلويين عن الاجتماع وقال"إنّ غياب أيّ شخصيّةٍ أو طرفٍ آخر لا يدعو للقلق، ولا ينبغي تفسيره بأنّه استبعادٌ مُمنهج"، مشيرًا إلى أنّ شيخ الطائفة العلويّة شارك في إفطارٍ أُقيم في السرايا الحكوميّة قبل يومٍ واحدٍ فقط، حيث التقى الرئيس ميقاتي من دون أيّ إشكالاتٍ تُذكر.ونفى الوزير السابق رشيد درباس في حديثه إلى "المدن" وجود "أيّ مشكلةٍ مع المشايخ العلويّين"، مشدّدًا على أنّ المؤتمر لم يكن موجّهًا ضدّ أيّ طائفة، بل سعى إلى تكريس مفهوم التآخي بين أبناء طرابلس والشمال على اختلاف انتماءاتهم.السّوريّ واللبنانيّ في سلّةٍ واحدةوبحسب ما أوضحه درباس فقد ناقش المجتمعون القضيّة السوريّة في مرحلتها الجديدة، ولا سيّما بعد توتّر الأوضاع على الساحل وأثرها على ملفّ النازحين في لبنان، وجرى التأكيد على ضرورة التواصل مع المفوضيّة الأمميّة وسائر المنظّمات الدوليّة المعنيّة لحلّ هذه المعضلة، وربّما عبر إنشاء مخيّماتٍ سوريّة في الجانب الآخر من الحدود، ما يُخفّف الضغط عن لبنان. وأوضح أنّ مفهوم اللجوء كما عرّفه "إعلان جنيف" لم يعد ينطبق على كثيرٍ من النازحين السوريين، الذين يتنقّلون بين لبنان وسوريا بانتظام.
وفي الجانب اللبنانيّ، قال درباس، تطرّق المتحدّثون إلى الوضع الأمنيّ المُهتزّ في طرابلس ومحيطها، وطرحوا تساؤلاتٍ حول أسباب عدم تفعيل الخطط الوقائيّة والاستباقيّة، واتّفقوا على أنّ ضبط الأمن في الشمال يستدعي جهدًا مشتركًا من القوى الرسميّة والمرجعيّات السياسيّة والدينيّة في المنطقة، ورفعًا كاملًا للغطاء عن أيّ مُخرّبٍ أو متجاوز.وحدة الموقفوكان اللقاء عقد تحت عنوانٍ عريضٍ مفاده: "الحرص على وحدة الموقف السياسيّ الوطني والشماليّ في لحظةٍ إقليميّة حَرِجة"، خصوصًا بعد ما جرى في مناطق السّاحل السوريّ من أحداثٍ دمويّةٍ أسفرت عن سقوط ضحايا ووقوع موجة نزوحٍ جديدةٍ نحو الحدود اللبنانيّة. شارك فيه رؤساء الحكومة السابقون: نجيب ميقاتي، تمام سلام، وفؤاد السنيورة، إلى جانب عددٍ من النواب والشخصيّات السياسيّة والدينيّة والشماليّة، بينهم النواب عبد الكريم كبارة، إيلي خوري، جميل عبود، إيهاب مطر، وليد البعريني، محمد يحيى، جهاد الصمد، أحمد الخير، وطه ناجي، بالإضافة إلى نوّابٍ ووزراء سابقين من مختلف الأقضية والتيّارات.
وبالإضافة إلى التمثيل السياسيّ الواسع، طغى البُعد الدينيّ على اللقاء، من خلال مشاركة مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام، ومفتي عكّار الشيخ زيد بكار زكريا، وعددٍ من المطارنة والآباء من الكنائس المارونيّة والأرثوذكسيّة والروم الملكيين الكاثوليك والأرمن الأرثوذكس، فضلًا عن ممثّلي النقابات والقطاعات المهنيّة، وهو ما يعكس حرصًا على إظهار الصورة التعدديّة والتعايش المشترك في طرابلس والشمال، والتأكيد على نبذ أيّ خطابٍ طائفيّ يُعيد إنتاج التوتّرات الماضية.ميقاتي: لمعالجة ملفّ النازحينوفي ختام اللقاء، ألقى الرئيس نجيب ميقاتي كلمةً استعرض فيها أهمّ ما دار من نقاشاتٍ، فشدّد بدايةً على استنكار المجريات الدمويّة في سوريا، معتبرًا أنّ المصارحة والمصالحة تبقيان الأساس للعبور نحو الاستقرار. وأكّد ضرورة أن تعمل الحكومة اللبنانيّة مع الهيئات الدوليّة على إيواء النازحين وتقديم الإغاثة الفوريّة لهم، على أن تُستكمل الجهود مع الحكومة السوريّة لتأمين عودتهم إلى ديارهم في أقرب وقتٍ ممكن، قائلًا: "لا توجد كلمة (لجوء) في لبنان بأيّ شكلٍ من الأشكال".وتناول الملفّات المحلّيّة العالقة في مدينة طرابلس والشمال عمومًا، مشدّدًا على ضرورة الإسراع في إقرار اللامركزية الإداريّة والقيام بالتعيينات الضروريّة في مجالس الإدارة، ما من شأنه تحريك العجلة الاقتصاديّة في عاصمة الشمال. ولم يغفل أهميّة ضبط الفلتان الأمني، ودعا الأجهزة القضائيّة إلى تسريع المحاكمات ورفع الغطاء عن أيّ مُرتكبٍ أيًّا كان انتماؤه.وفي معرض ردّه على سؤالٍ حول دعوة رئيس الحكومة نواف سلام إلى الاجتماع، أوضح ميقاتي أنّ الاجتماع عاديٌّ ومنبثقٌ عن مبادرةٍ قدّمها الرئيس فؤاد السنيورة، بالتشاور مع الرئيس تمام سلام، وجاء الانعقاد في طرابلس نظرًا لحساسيّة المرحلة ولضرورة توحيد الموقف الوطني. وأضاف أنّ زيارة الرئيس سلام لطرابلس تبقى دائمًا مُرحّبًا بها.أمّا في ما خصّ مسألة إقرار الموازنة بمرسوم، فقد اعتبرها ميقاتي "أمرًا طبيعيًّا" في ظلّ الظروف الراهنة، إذ لا يجوز الاستمرار بالصرف على القاعدة الاثني عشريّة، ما قد يعرقل إدارة شؤون الدولة، مشيرًا إلى أنّ التعديلات الطارئة على الموازنة كما حصلت مؤخرًا تهدف إلى تسيير أمور الدولة وإبقائها في نطاق القانون.السنيورة: التلاقي والحوار لرسم حلولٍ جذريّةوثمّن الرئيس فؤاد السنيورة اجتماع طرابلس، واصفًا إيّاه بـ"الفرصة الطيّبة للتلاقي والحوار حول قضايا تهمّ الوطن عامّةً والشمال على وجه الخصوص". وأوضح أنّ ما شهده الساحل السوريّ أخيرًا يتطلّب موقفًا واضحًا وصريحًا يعالج الأزمة المتفاقمة وملفّ النازحين، مشيدًا بخطوات الحكومة السوريّة الجديدة التي أخذت على عاتقها احتضان كلّ مكوّنات المجتمع السوري. كما لفت إلى أهميّة بناء علاقة "قويمة ونديّة" بين لبنان وسوريا تقوم على احترام سيادة كلّ بلد، وأنّ هذه الفرصة يمكن أن تُستثمر لتحسين الوضع الاقتصاديّ في كلٍّ من طرابلس والشمال.وذكّر السنيورة بأولويّة استثمار موارد طرابلس والشمال، معتبرًا أنّ تكامل عمل الدولة مع القطاع الخاص هو الركيزة الأساس للنهوض التنمويّ. وفي السياق ذاته، ناشد الدولة "خلق مناخات حقيقيّة ومناسبة للنهوض الاقتصادي في الشمال، من خلال تفعيل معرض طرابلس الدولي والمرفأ والمطار وغيرها من المؤسّسات القابلة لأن تكون رافعةً تنمويّة للمنطقة".إعلان طرابلسوفي الختام التقى المجتمعون على تأييد "إعلان طرابلس" الذي تضمّن ستّة بنودٍ أساسيّة:
- الإدانة الشديدة للأحداث الدامية في الساحل السوري: والطلب بضرورة ضبط التجاوزات فورًا، ومحاسبة المسؤولين عن الاعتداء على المدنيّين.
- تثمين توجّهات الحكومة السوريّة: ولا سيّما الدعوة إلى جمع المكوّنات الوطنيّة السورية، والحفاظ على وحدة سوريا، وإتمام تحقيقٍ مستقلٍّ في ما جرى لمحاسبة المرتكبين، وتسهيل عودة النازحين تباعًا إلى المناطق المستقرّة.
- دعوة اللبنانيين إلى أخذ العبر: وتجنّب السقوط في دوّامة العنف الداخلي مجدّدًا، خصوصًا في ظلّ الذكرى الأليمة للحروب الداخليّة والاقتتال الطائفيّ الّذي عانى منه لبنان سابقًا.
- مطالبة الحكومة اللبنانيّة بالتواصل مع الهيئات الدوليّة: بغية متابعة أزمة النازحين المستجدّة وتسهيل عودتهم إلى بلادهم، ومنع تحوّل المخيّمات إلى عبءٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ دائم.
- تأكيد دعم مسيرة التعافي في لبنان: والإشادة بانتخاب رئيس الجمهوريّة العماد جوزاف عون وتأليف حكومة الإنقاذ برئاسة نواف سلام، والعمل على تعزيز الوحدة الداخليّة، والتمسّك باتفاق الطائف والشرعيّة العربيّة والدوليّة.
- معالجة قضايا الشمال وطرابلس: من بوّابة ضبط الأمن والتسريع في التعيينات الإداريّة وإنشاء مجالس إدارة لمؤسّساتٍ حيويّة، ما يفتح الباب أمام انتعاشٍ اقتصاديٍّ وتنمويٍّ حقيقيٍّ في المنطقة.