في مقالة بعنوان "قبلتي الأولى" نُشرت في مجلة الدراسات الفلسطينية، يقول المخرج محمد سويد ما مختصره إن سينما ريفولي التي هُدمت في منتصف تموز/يوليو 1994، يفوق عدد اللقطات المتداولة المنتشرة عن مبناها، منذ أواخر الأربعينيات لحظة تشييده إلى منتصف التسعينيات لحظة تدميره، تلك المنشورة لسائر دور السينما الزائلة. وصور زمن حياة السينما وناسها وأفلامها، يمكن معاينتها في الصور السياحية والبطاقات البريدية القديمة، بحيث أمسى المبنى أيقونة وسط المدينة، ومفتاح الدخول بالصورة إلى ساحة البرج ودعوة العين إليه وإلى ماضي وسط بيروت. مع أن تفجير هذا المبنى كان تنفيذاً لمخطط "سوليدير"، فإنه صمد في الصورة المتبقية عنه وحافظ على كليشيه موقعه في وسط العاصمة.
(الزمن الجميل)والحال أنه لا يختلف الأمر عن أسواق وسط بيروت وأبوابه، وإن كانت أقل صورأ. فصورة الأسواق القديمة ما زالت في الأذهان، والنوستالجيا إلى الأمكنة الغابرة، إشارة إلى التحولات الكبيرة التي أصباتها، شيء ما يشبه الحنين إلى الريف في الخمسينيات والستينيات. فإذا كان الأدباء والشعراء في زمن غابر قد هَجَوا المدينة وذمّوا مبانيها وأسفلتها وضجيجها وأنماط عيشها، ودوّنوا حنينهم الموجع إلى دروب ريفهم وعرزالهم وينابيعهم وأشجارهم ومنجيرة راعيهم وشخروبهم، وكتبوا ما سمّاه أحمد بيضون "أدب الحسرة". فالآن، في زوايا فايسبوك ومشتقاته، موجة حنين موجع أيضاً إلى بيروت -البلدة الكبيرة في زمن البدايات والساحة والصبير والأسواق الصغيرة (السمك، الهال، الجوهرجية، النورية، الوقية وحتى ماريكا) والأبواب والسور والخانات والمقاهي والقبضايات، حتى بساتين التوت. يأتي ذلك في زمن الجشع العمراني والأبراج الاسمنتية والخراسانات العملاقة وطرد "البيارته" خارج مسقط رأسهم وموطئ قدمهم. العودة إلى صورة المكان الزائل في الماضي ومشاغله، في اللاوعي، عدا عن البعد الثقافي، هي نوع من أزمة الحاضر وانعكاساته وتيهه، فشل الحاضر يعيدنا إلى الماضي وقعره، مثل كل شيء في الربوع اللبنانية، القائم على تمجيد "الزمن الجميل"، والسياسي الجميل، وزمن البحبوحة. ثمة الكثير من الأقلام والأصوات لمْ تتقبّل ولم تندمج بالتحولات الحياتية والثقافية والعمرانية والاقتصادية الجديدة، ما زالت تعدّ إقفال مقهى الحاج داود نوعاً من "تغريب"، أو إقفال قهوة القزاز "مؤامرة" عقارية. والسؤال الأكبر: كيف صرنا هكذا؟ مَن دمّر وسط بيروت، الحرب أم شركة سوليدير؟ ربما في هذا السؤال شيء من جدلية البيضة والدجاجة.
(زمن الحرب)كان محمد سويد أول مَن رثى مبنى ريفولي في "ملحق النهار"، يوم تفجيره وتطاير غباره في مشهد هوليوودي، وقد أسرف الكثير من الحبر في توصيفه، كأن تفجير السينما كان نقطة التحول في مشروع إعادة الإعمار في وسط بيروت، والمعروف أنّ "الملحق" تحوّل إلى منبر للدفاع عن مبان بعينها، من الريفولي إلى مبنى بركات وفندق السان جورج. رأى الروائي الراحل إلياس خوري، أن إعادة إعمار وسط بيروت، وفقاً لمخطط سوليدير، هو محو لذاكرتها تحت الأسمنت من دون معالجته، كتب: "صحيح أنّ الحروب هي أكبر مهندس تنظيم مدني في التاريخ، لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ البشر يعيدون هندسة ما صنعه توحّش الحروب بنكهة البُعد الإنساني الذي يدافع عن قيَم الحياة. غير أنّ محاولتنا الفاشلة كانت النذير الأوّل لمسار الخراب الروحي والمادي الذي سيجتاح وطننا الصغير". وفي الوقت نفسه، يقر خوري بهزيمة خطابه أمام مشروع سوليدير، لكن النقاش حول الذاكرة في ذلك الوقت سرعان ما أصبح مثل الدمى الروسية، ودخلنا في لعبة الأزمان وطبقات الذاكرة وانهيار بيروت وتصدعها. وهذا المسار ليس وليد الأن، فقبل تشييد مبنى سينما الريفولي، كانت البقعة الواقعة شمالي ساحة الشهداء مقبرة إسلامية تسمى "مقبرة الخارجة"، ومساحتها 2064 متراً مربعاً. توقف الدفن فيها في مطلع العشرينيات من القرن الماضي وتحولت إلى سوق للخضار وموقف للسيارات. ومن دون تفاصيل تشييد الريفولي، بعد أعمال الحفريات، ظهرت تحت عمارة الريفولي طبقات حضارات زائلة، فينيقية وبيزنطية وعثمانية ورومانية وصليبية ومملوكية. أيضاً، في النصوص التي كتبت عن وسط بيروت المعاصر، نلاحظ أن ثقافات تداخلت وتشابكت، بين الطراز العثماني والحداثة الفرنسية والهوى اللبناني والفردي، وأتت الدبابة قبل الجرافة، وجعلت أجزاء كبيرة منها ردماً في النورماندي، أماكن كثيرة أزيلت وبقيت حكايتها أو صورتها طاغية في الوجدان، تنبعث من حين إلى آخر.
(زمن الاضطراب)تبدو الأسواق في صورها القديمة طبقات من الحكايات التي لا تنتهي، لكل سوق حكاياته وإن تضمنت بعض الأسطرة، أمام الوسط التجاري في صورته التي عشناها ما بعد الحرب وفي زمن سوليدير. كان هناك نوع من مشروع موؤود وحلم معلق، عاش شيئاً من الازدهار في النصف الثاني من التسعينيات، وبداية الألفية، ودخل في أتون الأيام السوداء، ليشابه الواقع السياسي، إذ لا يوازي إقفال المحال التجارية سوي تعطيل الحياة الدستورية. كانت الأزمات اللبنانية كلها تمر في وسط بيروت، أو تعطله وربما تسهتدفه، منذ اغتيال رفيق الحريري في شباط2005، صار وسط بيروت طبقات من الخواء والوحشة والأشباح والموت والكآبة. كان المشروع مرتبطاً بشرق أوسط سلمي، ففتك به التطرف الهوياتي في بداياته، ثم أصبح البلد رهينة المشروع الأمني المتصاعد، ودخل في سلسلة متاهات، من التظاهرات المليونية إلى الاعتصام الشهير وموجة الاغتيال، إلى مكعبات المجلس النيابي الإسمنتية، والثورات العبثية والبيئية والمطلبية والخندقية، ثم انفجار مرفأ بيروت والأزمة الاقتصادية. صورة وسط بيروت بعد العام 2005 هي صورة الموت والجنازات والاضطراب والانهيارات والعنف والطريق المقطوعة والمقاهي المقفلة وطيور الحمام المنتشرة التي تغطي وجه المدينة بالروث. ولم يكن "الوسط" الذي فُتحت الطرق المؤدية إليه في الأيام الأخيرة، إلا شكلاً من حياة معلقة أو الأندلس الضائعة والفردوس الموعود في انتظار غودو.
أما الفسابكة فيعيشون افتراضياً في صورة الأسواق الشعبية القديمة، بينما بيروت الراهنة تتلقى الضربات الآثمة من الداخل والخارج معاً، ضربات أفقدتها دورها وفضاءها ومجلاتها ومحركاتها، في المقابل تتهافت مدن عربية بحثاً عن أدوار جديدة، فيها شي من التصنّع.