2025- 03 - 13   |   بحث في الموقع  
logo بالصوره: “مسير” فوق معظم أراضي لبنان logo نائب الأميرال ألغرين من بيروت: المملكة المتحدة شريك طويل الأمد للبنان logo في تصريحات "مفاجئة"... شيخ عقل الدروز: لا وفاق ولا توافق مع سوريا logo عقوبات أميركية على وزير النفط الإيراني logo بعد الجدل حول التطبيع... صحيفة إسرائيلية تكشف "الحقيقة"! logo نتنياهو يتحدث عن العمليّات العسكريّة في لبنان logo نتنياهو: لا تنازل عن السيطرة على خمسة مواقع بلبنان logo بالصور… قادة الأجهزة الأمنيّة في قصر بعبدا
حياة سياسية سورية على أنقاض الثورة
2025-03-13 14:25:49

بعد سلسلة من أربع مقالات ضمن ملف "لحظات سوريا الفارقة...قبل الأسد"، هنا حلقة خامسة عن الثورة السورية الكبرى التي لم تُخمد جذوتها، إلا وقد خلّفت لمآلاتها نهاياتٍ مفتوحة، مورثة البلاد تركة ثقيلة سيكون على السوريين مواجهتها كأقدار محتومة، حتى لحظتهم هذه، ولعلّ مما يجدر بهم فعله قبل مكابدتها، فهمُها وتحليلها ومن ثمّ البناء عليها.
بيعت في مزاد "الاستشراق والفن الإسلامي" الذي نظمته دار Gros et Delettrez في باريس يوم 25 حزيران/يونيو 1996، لوحة للرسام البلجيكي جان بابتيست هويسمانز، والمدقّق فيها سيقرأ سرديات عديدة تنساب أمام ناظريه بتسارع من مشهد يتصدّره الأمير عبدالقادر الجزائري الذي حمى المسيحيين في بيته بحي العمارة الدمشقي من مجزرة كبرى، ومنع تهجيرهم من أرضهم، ولم يقبل الخطة المرسومة لنقلهم خارج سوريا. لكن أفق لوحة هويسمانز الواسع، حيث تبدو مآذن دمشق وأبراج كنائسها بالأزرق الدخاني، يعبّر بقوة عمّا كانت عليه الأحوال في خريطة المجتمع، ذلك التراب الذي تنمو فيه شجيرات السياسة أو تجفّ وتتيبّس.وكعادتها عبر آلاف السنين شهدت دمشق، في ما شهدته، الحوادثَ التي عرفت بـ"طوشة النصارى" في العام 1860 التي امتدّ لهيبها من لبنان، ومن التناقض الذي تفجّر ما بين الفلاحين وملاكي الأراضي، وما لبث أن تحوّل إلى صراع ما بين الموارنة والدروز. صراع أسقط عشرات آلاف القتلى من الجانبين، ودمّر مئات القرى والكنائس، وكان ذروة لثورات خلت عبر العقدين السابقين على ذلك التاريخ، ويروي ميخائيل مشاقة يومياتها في كتابه "تاريخ حوادث الشام ولبنان" الصادر في بيروت عن المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين العام 1912.السياسة وملامح المجتمع
أطياف تلك الحوادث لم تغادر ذاكرة السوريين واللبنانيين، ولعلّ أبرز محطاتها كان ما سمّاه المسلمون "فتح زحلة"، حين سيطر الدروز على المدينة، فزينوا حارات الشام واحتفلوا ولم يعلموا أنهم بذلك يستجيبون لنداء الفتنة التي استهدفت، أول ما استهدفت، صناعةً شكّلت قوّة بلادهم آنذاك.صناعة الحرير والنسيج التي يطيب القول إنها كانت تمثّل نفط ذلك الزمان، وكانت دمشق مركزها العالمي الأبرز، دفعت بالنساجين المسيحيين المهرة إلى الصدارة، واشتهرت أصناف فاخرة منه اقترنت بأسماء أسر مسيحية دمشقية، كحرير البولادية على سبيل المثال، المنسوب إلى "حنا بولاد"، بينما تراجعت مكانة التجار المسلمين وتناقص عدد الأنوال من 4000 نول إلى 850. وكان الفرنسيون الذين دعموا المسيحيين، والبريطانيون الذين دعموا الدروز في الخلفية، يديرون صراعاً سيكون هدفه الأسمى مشروعاً مباشراً لتهجير النساجين المسيحيين إلى الريفَين الإنكليزي والفرنسي للسيطرة على هذه الصناعة بعدما أصيبت دودة القزّ في الصين وفرنسا بآفات زراعية دمّرت مركزيهما عالمياً.استدعت تلك "الفتنة" تدخلاً دولياً، أعلنه ونفّذه الإمبراطور نابليون الثالث، وأخذت بريطانيا وفرنسا وروسيا وبروسيا والنمسا، بذريعة حماية المسيحيين، تتدخل أكثر في شؤون سوريا العثمانية، وتم تشكيل لجنة دولية لتقديم المساعدة في استعادة النظام ومنع وقوع المجازر مجدداً.المؤرخة الأميركية ليندا شاتكوفسكي شيلشر، مؤلفة كتاب "دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر" الصادر عن دار الجمهورية العام 1998 بترجمة عمرو الملاح ودينا الملاح، ترفض السردية القائلة إن الدافع وراء "طوشة النصارى" كان دينياً. وعن ذلك تقول: "ثمة الكثير من الاحتمالات التي يمكن أن تحمل المرء على اعتبار حوادث 1860 في دمشق من الحوادث التاريخية المحكمة. ومع ذلك، لا بد لنا من مواصلة البحث عن آلية معينة ومركزية أطلقت شرارة أعمال الشغب صبيحة ذلك اليوم من تموز/يوليو. يجب علينا أن نوضح أمراً واحداً: إن ما لدينا هنا هو انفجار صراع اجتماعي، واجتماعي-اقتصادي، واجتماعي-نفسي، وسياسي، وليس حرباً طائفية. وهذا ما تؤكده حقيقتان. أولاهما؛ أن جماعة معينة من المسيحيين فقط تعرضت للهجوم، بينما تُرك المسيحيون الآخرون في سلام. وثانيهما؛ أن بعض المسلمين فقط قاموا بالهجوم، بينما قام المسلمون الآخرون بحماية المسيحيين وتقديم العون لهم".ورأت شيلشر أن سيطرة أسرَة العظم لقرون، على دمشق وبلاد الشام، خلقت طبقتين، سمّت كل واحدة منهما "عصبة"؛ أولاهما قوية، عمّرت طويلاً وهيمنت على التجارة الخارجية والحياة العامة بفضل علاقتها الوثيقة مع العثمانيين. والثانية قامت على أصحاب الإنتاج والتجارة الداخلية. تلك المعادلة تعرّضت في أواسط القرن التاسع عشر لضربتين عنيفتين؛ الأولى محاولة العثمانيين فرض سيطرتهم المباشرة على الولاية. والثانية، التغلغل الحثيث للبضائع الأجنبية (الغربية) في الأسواق السورية. وتسببت هاتان الضربتان بهزّة اجتماعية أصابت السلم الأهلي في العام 1860، نشأ عنها في نهاية المطاف تحالف مصالح بين العصبتين في دمشق.ذلك المناخ ضغط على فؤاد باشا، وزير الخارجية العثماني الأسبق، الذي أوفده السلطان عبد المجيد الأول لضبط الأوضاع في دمشق، فحرص على الحؤول بكل وسيلة ممكنة دون توسّع التدخل الأوروبي في إدارة سوريا. وكانت سياسته تقضي بإنزال أقسى العقوبات بالأهالي في دمشق، بعد تحميلهم مسؤولية ما جرى؛ إما بتهمة الاشتراك في المجازر أو بسبب الصمت عليها. تم إعدام المتورطين من الزعماء الدينيين والعسكريين والعامة، وجرى نفي أكثر من ألفي وجيه وتاجر ورجل دين دمشقي، بمن فيهم مفتي دمشق إلى رودوس وطرابزون، وفرضت عقوبات جماعية ضد بعض الأحياء الدمشقية التي كانت مسرحاً للعنف، وغرامات ضخمة على الأحياء المتورطة منها. كما قام فؤاد باشا بإعفاء عدد من المسؤولين المحليين الذين كانوا يُعَدّون متراخين، وعيّن موظفين موالين للسلطة العثمانية لإعادة فرض الأمن والنظام وهيبة الدولة في المدينة.
(بيع الحكومة السورية لممتلكات الأمير فيصل 1883-1923، في دمشق)
كانت دمشق السياسية، قبل ذلك التاريخ، تقوم على شرائح عديدة، أبرزها شريحة القوات شبه العسكرية، وهي المجموعة التي شكّلت أكثر الجماعات السياسية بروزاً في دمشق. تليها شريحة الأشراف الذين تمتعوا بمكانة مهيبة في المجتمع، بفضل نسبهم الهاشمي والامتيازات التي منحت لهم. ثم شريحة العلماء التي ضمّت المفتين والأئمة والخطباء، ومعهم القضاة والنواب والكتّاب. وشريحة المتصوفة وشيوخ الطرق، فيما كانت الشريحة الأوسع هي الحرفيين. ثم تأتي شريحة التجار المنشغلين بالاستيراد والتصدير، وأخيراً شريحة المهاجرين والبدو والفلاحين، وهي الفئة التي كانت تتزايد بتعاظم الطلب على الأيدي العاملة.ومع ذلك لم يسمح توازن النظام السابق بظهور زعماء سياسيين من خارج العصبتين الرئيستين، و"لما أخذ زعماء بارزون في الشرائح الرئيسية ينهجون نهجاً أكثر مثالية، بدءاً من سبعينيات القرن التاسع عشر، فلأن ذلك كان في وقت باتت فيه هذه الشرائح عاجزة عن أداء وظائفها من حيث كونها بنى سياسية"، كما ترى شيلشر.خلق التحول الاقتصادي تحولات سياسية انعكست في المجتمع السوري، إثر تطبيق التنظيمات العثمانية التي اعتمدت على قانون "تنظيم إتمك" القاضي باستلهام التجارب الأوروبية في الحكم، ودشّنه بيانٌ حمل اسم "خط الكلخانة الشريف" وضعه مصطفى رشيد باشا، ناظر الخارجية، بمساعدة مستشارين فرنسيين. وعزّز ذلك كلّه الضغطُ الخارجي لتمكين التبعية الاقتصادية للغرب أكثر فأكثر، ما تسبّب بظهور نخبة قوامها الأعيان الذين وافقوا على ولادة نظام جديد في سوريا، نظام لا شرائح اجتماعية فيه.عقوبات فؤاد باشا تسبّبت بدورها بإحداث تغييرات كبرى في دمشق، دمّرت ما تبقى من الطبقات فيها، وقطعت رؤوس المجتمع بالنفي خارج البلاد، فظهرت طبقات موالية لتحلّ محلّ "الطبقات العليا" وتتسيّد على التجارة وتتصدّر الحياة الاجتماعية وقيادة الناس. وبفقد حلقة دمشق، اختل التوازن الاجتماعي في البلاد وحدثت متغيرات مشابهة في المدن الكبرى، كحلب وحماة وحمص، وكان اعتماد تلك الطبقات على العائدات الزراعية من ملكياتهم الكبيرة. وكل ذلك أدى إلى انهيار تام للنظام الاجتماعي القديم.ستظهر آثار تلك الحوادث بعد عقود، مع زوال التهديد العسكري للثورة السورية الكبرى، ومقتل ونفي الزعامات التي قادتها، لتبدأ مرحلة جديدة اعتمدت فيها سلطات الانتداب الفرنسي على موظفي الدولة العثمانية الكبار السابقين، فأعادت تعيينهم ومكّنت وجودهم كصورة مقابلة لقادة الثورة الذين عدّتهم أعداء النظام الاقتصادي-السياسي والاجتماعي الذي كانت تشرف على تأسيسه في سوريا. من بين تلك الأنساق الاجتماعية الجديدة، انشطرت الطبقة التي يمكن وصفها بحذر باسم "الطبقة المدينية التقليدية" إلى شطرين. الأول "الطبقة المدينية الوسطى" وكانت تضم صغار التجار. وهذه الأخيرة هي التي سوف تصبح "البورجوازية الوطنية" لاحقاً، التي سيتم استبدالها في القادم من مستقبل سوريا بـ"بورجوازية الدولة". أما الشطر الثاني فهو "الطبقة المدينية الدنيا"، حسب محمد علي الصالح في كتابه "إدارة الاقتصاد السوري زمن الانتداب الفرنسي"، الطبقة التي حوت أصحاب الحرف والمهن اليدوية، وباعة الدكاكين وصغار الموظفين. وكان على رجال هذه الفئات، بالشكل الذي آلت إليه مجموعاتهم، أن يقودوا الحياة السياسية في زمن السلم، تحت إدارة وإشراف الفرنسيين مباشرة.دولة ملفّقة - دولة غائبة
التفكّك الذي عاشته سوريا، زمن الدويلات الطائفية ومن بعده زمن الدولة الفيدرالية، خلّف دولة ملفّقة بالمعنى النقدي للكلمة، أي دولة مُفكّر فيها ومرتّبة ومعدّة مسبقاً كمشروع، لا ككيان حقيقي. دولة مركبّة بالمعنى الذي يشير إليه ابن رشد حين يصف نظام الحكم الاستبدادي: "ينبغي أن تعلم أن هذه السياسات التي ذكرها أرسطو ليست تُلْفَى بسيطة وإنما تلفى أكثر ذلك مركبة، كالحال في السياسة الموجودة الآن، لأنها إذا تؤمّلت توجد مركّبة من فضيلة وكرامة وحرية وتغَلُّب" (من كتاب ابن رشد "الضروري في السياسة" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت العام 1998). ويمكن للقارئ أن يتوقّف ملياً عند كلمة "تغَلُّب" التي استعملها ابن رشد لأنها سترافقنا لعشرات من السنين المقبلة، وستظهر بقوة في العام الحالي 2025.الدولة التي نشأت آنذاك برعاية المختبر الفرنسي، ترأسها الأنطاكي صبحي بركات، الذي كان عضواً في المجلس التمثيلي لدولة حلب، وتم انتخابه من قبل المجلس الأعلى للاتحاد السوري لمنصب رئيس الاتحاد السوري، أي الدولة السورية... لكن أي دولة؟كانت سوريا نموذجاً مطابقاً تماماً لدولة تنجم عن انهيار نظام، ويشير إلى ذلك، في صورة الدولة، المفكر العربي عزمي بشارة في كتابه "مسألة الدولة: أطروحة في الفلسفة والنظرية والسياقات" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2023. إذ يرى أنه إذا سقط نظام حكم في دولة ما، وأدى ذلك إلى سقوط الدولة نفسها وتفتتها، فإننا نكون إزاء دولة غير مكتملة التطور لناحية ملاءمتها لمفهوم الدولة المعاصر.وباعتبار أن الدولة هي بالفعل "قضية مصيرية"، لم يكن ذاك الممرّ الذي عبرت منه الزعامات السياسية السورية، في زمن ما بعد الثورة، بلا تحديات، أبرزها وأخطرها إدراك أن الدولة هي "قضية مصيرية"، وهي مصيرية ليس لزعمائها وحسب، بل لكافة سكّانها، وهذا هو الإشكال الذي واجهته سوريا حينها. وإذ يؤكد بشارة على أن الدولة الحديثة لا تتعامل مع شعبها على أسس قبائلية أو طائفية أو عصبية أو إثنية، نجده يقول: "إذا كانت المواطنة بحقوقها وواجباتها مترتبة على عضويّة في جماعة ضمن جماعات قائمة فيها، فسنكون أمام دولة غير مكتملة التطور"، وهي الحال التي هندست فرنسا سوريا على أساسها. ولم يَقُد ذلك سوى إلى تأسيس دولة سورية فاشلة لا يقلّ خطرها عن خطر "غياب الدولة".وهكذا كان المشهد الذي صنعه بركات من حوله، كرئيس للدولة؛ عبارة عن تكتل إثني، يهيمن عليه التركمان في الدائرة الرئاسية وغالبية المناصب العليا. وحين تفجرت الثورة في عهد بركات، لم يؤيدها ولم يعارض قصف الفرنسيين لدمشق. وكي يبالغ في ولائه لفرنسا، أصدر قانوناً يقضي بسجن "كل من يلقي الذعر في نفوس الشعب، ويشوّش الطمأنينة العامة في الصحافة أو المجتمع" لمدة عامين، مضيفاً إلى السجن تغريم من تثبت عليه تهمة "ثائر" بمبالغ تصل إلى 500 ليرة.
(بونسو)وبينما كان ذلك يحدث، كانت الطبقة السياسية التي قبلت العمل في ظل الانتداب الفرنسي، بدءاً من إعلان المندوب السامي هنري بونسو إجراء انتخابات لتشكيل جمعية تأسيسية، تضع دستوراً جديداً للبلاد. أراد الانتداب الفرنسي خلق دولة سورية على طريقته، فاستعمل الأفراد، لا الكيانات، ويُطرب في هذا السياق اعتبار بشارة أن التاريخ في الحقيقة، لم يبدأ بأفراد، بل بجماعات شكلت الدول القديمة، والدولة الحديثة لم تنشأ من فراغ، بل من سلطات قائمة توسّعت إقليمياً لتتحوّل إلى سيادة وقانون ارتكزت شرعية الدولة الحديثة على الحكم به. ولا يجد المرء حرجاً هنا في تذكّر شرط الإدارة السورية الجديدة الصارم على الراغبين في ممارسة العمل السياسي، لا سيما حضور مؤتمر الحوار الوطني، بأن يشاركوا كأفراد لا ككيانات، وكأن الدولة الجديدة تعود بعد قرن ونيف لتبدأ من الأفراد.ارتطم خطاب الرئيس بركات، ومن خلفه الانتداب الفرنسي، بالإرادة الشعبية، وتخلى عنه المندوب السامي الذي انتقده في تقريره السنوي. وفي مشهد سينمائي مؤثر، أمر بركات سائقه بالعودة وحيداً من بيروت إلى دمشق، واتجه سيراً على قدميه إلى فندق النورماندي، مقرّ المفوضية الفرنسية التي أعلنت نبأ استقالته.أول رجل دين يترأس الدولة
رفع الفرنسيون الأحكام العرفية، وأعلنوا الحكومة السورية الحادية عشرة التي ستكون مهمتها الإشراف على الانتخابات، التي تشكّلت، بناء على وعود بونسو، من حطام العمل السياسي الوطني خلال سنوات الثورة، ونهضت على أكتاف مجموعة رئيسة حملت اسم "الكتلة الوطنية" التي عقدت مؤتمرها الأول في بيروت في تشرين الأول/ أكتوبر 1927، برئاسة هاشم الأتاسي، وحضره إبراهيم هنانو وعبد الرحمن الكيالي والأمير سعيد الجزائري.ترأس الدولة والحكومة هذه المرّة، أحمد نامي، وهو رجل دولة عثماني كان قد قرّر الابتعاد عن المشهد تماماً منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى، فعاش في سويسرا وبعدها فرنسا، ولم يعد إلى سوريا إلا في 2 حزيران/ يونيو 1926، حين أعلن حكومته التي كان جميع وزرائها من السوريين المتوائمين مع الانتداب. لكن بونسو ماطل في مسألة انتخاب جمعية تأسيسية لإعداد الدستور، ما دفع بالوزراء إلى الطلب من أحمد نامي تقديم استقالة الحكومة، فاستقال، وتم تكليف الشيخ تاج الدين الحسني برئاسة الدولة وتشكيل الحكومة خلفاً له.
(شكيب ارسلان)
كان الحسني شخصية إشكالية، تتحلى بقسط وافر من البراغماتية، مع نشأته الدينية ووراثته مكانة والده المحدّث الأكبر، العلامة بدر الدين الحسني، مراكشي الأصل، إلا أنه كان مقرّباً من كل السلطات التي حكمت سوريا. فقد كلّفه جمال باشا بتأسيس صحيفة "الشرق" الدمشقية، وجلب لمساعدته في تحريرها شكيب أرسلان ثم محمد كرد علي. وفي عهد المملكة السورية، عيّنه الملك فيصل مديراً لقصر الحكم، وعضواً في محكمة التمييز الشرعية، وعضواً في مجلس الشورى، كما تمكّن من الحصول على عضوية المؤتمر السوري الأول. ولم يفت الشيخ الحسني في خضم ذلك، أن ينتسب إلى حزب "الذوات"، حزب عبد الرحمن باشا يوسف. وبمجرّد خلع الفرنسيين لفيصل، غادر الشيخ الحسني إلى فرنسا، في حملة علاقات عامة مع كبار المسؤولين الفرنسيين، عاد بعدها إلى دمشق لينتظر التوقيت المناسب.حكومة الشيخ تاج الدين الحسني، التي كانت أول حكومة سورية يترأسها رجل دين، ضمّت ستة وزراء بينهم وزير مسيحي، هو توفيق شامية، وقد أشرفت بالفعل على انتخاب جمعية تأسيسية في 24 نيسان/أبريل 1928، غير أن الانتخابات كانت كارثة كبرى شابَها الكثير من الفضائح عن تزوير النتائج وشراء الذمم، وتسليط الشرطة على الناخبين للتدخل في الاقتراع وعدّ الأصوات. مرّت الانتخابات، وكان من أشهر شعارات الحكومة التي أشرفت عليها: "إعادة إعمار البلاد بعد الدمار الكبير الذي خلّفته الثورة"، والبدء بمرحلة طلب المساعدات لتمويل بناء الدولة، وفازت الكتلة الوطنية بثمانية مقاعد، لم يكن الشيخ تاج ليقبل إلا أن يكون المقعد التاسع منها من نصيبه هو. وانتخب هاشم الأتاسي رئيساً للجمعية، وإبراهيم هنانو رئيساً للجنة صياغة الدستور، وبدأت الجمعية بالإعداد لهذه المهمة، لتنجزه خلال أسبوعين فقط.وقد نص دستور العام 1928 في المادّة 6 منه، على أن "السوريين لدى القانون سواء، وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وفي ما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين أو المذهب". كما كفل الحريات العامة، حرية الصحافة، وحرية التعليم، ونصّ على أن "حرية الاعتقاد مطلقة والدولة تحترم جميع الأديان والمذاهب القائمة في البلاد وتكفل حرية القيام بشرائع الأديان والعقائد على ألّا يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب وتضمن الدولة ايضا للأهلين على اختلاف مللهم احترام المصالح الدينية والأحوال الشخصية". وجعل الدستور التعليم الأوّلي "إلزامياً للسوريين من بنين وبنات وهو مجاني في المدارس العامة"، إلى جانب منحه السوريين في المادّة 25 حق انشاء الجمعيات وعقد الاجتماعات ضمن حدود القانون.اللافت في دستور 1928، أن المادّة 28 منه قالت إن "حقوق الأقليات الدينية محفوظة، ولهذه الأقليات حق إنشاء المدارس لتعليم أطفالها لغاتها على أن لا تخالف بذلك المناهج العامة التي تعين قانوناً". غير أن الدستور أقرّ بأن رئيس الدولة مُسلم، ما أثار حفيظة المسيحيين.
(هاشم الاتاسي)
تم التصويت على الدستور بالإجماع، إلا أن بونسو طالب بتعديل ستّ مواد منه، فلم تستجب الجمعية التأسيسية لمطالبه التي كان في مقدمتها شرعنة الانتداب. ورفض الأتاسي، مذكّراً بدستور مصر 1922 ودستور العراق 1925، اللذين لم يشيرا إلى الانتداب البريطاني، فانسحب بونسو من الجلسة، وقد كان متوقعاً بالطبع أن يميل الشيخ تاج الدين الحسني إلى تلبية مطالب الفرنسيين. وبسبب موقفه ذاكن نشبت مشادّة حادة بينه وبين الزعيم الوطني فخري البارودي، الذي خاطبه قائلاً "أما حان الوقت أن ترحل؟". أخيراً غادر الشيخ الحسني الجلسة غاضباً، وعلى الفور أصدر بونسو قراراً بتأجيل انعقاد الجمعية التأسيسية لثلاثة أشهر وتعطيل العمل بالدستور.25 حزباً وحركة...في دمشق وحدها
شكّل الجدال حول أحقية الفرنسيين بالتدخل في قرار الجمعية التأسيسية، بدايةَ حضور "الكتلة الوطنية" في الساحة السورية، محمولةً على قضية الدستور، كما أتاح الحديثَ في السياسة في الفضاء العام بشكل واسع، بعد زمن الثورة. وجرت مفاوضات حول الموقف الفرنسي المتزمّت، باءت بالفشل، إلى أن أصدر بونسو قراراً في 7 شباط/فبراير 1929 بتأجيل انعقاد الجمعية التأسيسية، لكن إلى أجل غير مسمى هذه المرّة.خرجت مظاهرات داعمة لموقف الكتلة الوطنية، في دمشق وحلب، اشتركت فيها وفود الأحياء والنقابات والشباب. وظهرت للمرة الأولى مناورات قامت بها الجمعية التأسيسية المعطلة، بعرضها استعدادها للحوار مع الفرنسيين ليصبح التعاون ممكناً بين الجانبين، ويكتب محمد حرب فرزات مستغرباً، أن الكتلة الوطنية باتت، آنذاك، قائدة للحياة السياسية وممثلة للمطالب الشعبية، مع أنها ليست حزباً مرخصاً، ورغم أن رجالها ممن قبلوا العمل السياسي بالتعاون مع الاحتلال الفرنسي.في دمشق وحدها ظهر 25 حزباً في تلك المدّة، من بينها حزب "الإصلاح"، وكان لقادة هذا الحزب ماض غير مشجّع في التعامل مع الانتداب، ما جعل من العسير عليه أن يحقق انتشاراً شعبياً واسعاً. وقد كان معارضاً للكتلة الوطنية وللشيخ الحسني في الوقت ذاته. وبرز حزب "الاتحاد الوطني" الذي عرف بأنه حزب الموظفين والعسكريين المتقاعدين. كم ظهر حزب "الملكيين" وحزب "الأمة" الذي تحالف مع الكتلة الوطنية، إلى جانب "الرابطة الوطنية الملكية". وأنشأ التجار مجموعة حزبية سمّوها "الميثاقيين".ووصل إلى دمشق صيف 1930، شاب مثقف من أبناء المهاجرين قادماً من البرازيل عبر ضهور الشوير، وكان يبحث في عاصمة الأمويين عن آفاق وإمكانيات العمل السياسي، فعمل مدرّساً في مدارس المدينة، ثم كتب في الصحف الدمشقية مثل "اليوم"، "ألف باء"، القبس"، بعدها قفل راجعاً إلى بيروت ليرتّب في الخفاء تأسيس حزب يدعو إلى تشكيل عصبية قومية سورية عقب تأثره بالتيارات الفكرية التي عصفت بدمشق وسوريا كلّها.
(أنطون سعادة)كان ذلك الشاب يدعى أنطون سعادة، وحزبه سيحمل اسم "الحزب السوري القومي الاجتماعي" الذي تشكّل في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1932، وسيكون له تأثير واسع في سوريا كما في لبنان. وللمفارقة كان سعادة أول من استخدم كلمة "بعث" عبر إعلانه أن الغاية الكبرى من تأسيس الحزب هي "بعث نهضة سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه، وتعيد إلى الأمّة السورية حيويتها وقوّتها، وتنظيم حركة تؤدّي إلى استقلال الأمّة السورية استقلالاً تامًّا وتثبيت سيادتها وإقامة نظام جديد يؤمّن مصالحها ويرفع مستوى حياتها والسعي لإنشاء جبهة عربية". ولأن طروحات القوميين السوريين ناصبت الانتداب الفرنسي العداء ورفضت الحدود، خصوصاً في ما كانوا يطرحونه في مجلة سعادة "المجلّة"، التي روّجت مفهوم "الأمّة السورية"، اضطروا إلى العمل بشكل سرّي لثلاثة أعوام، قبل أن يجري اعتقال سعادة الذي لقّبه أنصاره بـ"المفكر العملي"، إذ وجّهت إليه تهمة تشكيل جمعية سرية.وكما كان من الطبيعي أن تلقى ولادة حزب قومي في بيروت، صدى لها في دمشق، كان ترداد اسم الشيخ المصري حسن البنا، والجمعية التي أنشأها في الاسماعيلية في 22 آذار/مارس 1928، وحملت اسم "جماعة الإخوان المسلمين"، مشجّعاً للمحافظين في سوريا على تطوير توجهاتهم وتأطيرها.الساحة السورية لم تكن لتخلو من بدايات نشوء الحركات الإسلامية، فتأسست في وقت مبكّر "جمعية العلماء المسلمين" بدمشق العام 1925، وانصبّت أهدافها على الدعوة ومقاومة الاحتلال الفرنسي، وتعزيز الهوية الإسلامية بمواجهة الاستعمار. وولدت جمعية "الشبان المسلمين" العام 1927، لتعليم الشباب المسلم وبناء شخصية إسلامية قوية، كما عبّرت أدبياتها. ودعت جمعية "الشبان المسلمين" إلى تكريس "الروح الوطنية الإسلامية" ضد الانتداب الفرنسي، وهو مفهوم جديد بدوره يربط العمل السياسي الوطني بالدين.أما جمعية "السَّلفية" فكانت مرتبطة بالحركة السلفية في بقية بلاد الشام. وقامت مبادئها على رفض المذاهب التقليدية في الفقه والطرق الصوفية من جهة، ومن جهة ثانية أعلنت مناهضتها للتغريب والتأثر بالثقافة الغربية الذي عدّته انحرافاً عن الدين. وفي مقابلها نشأت "الجمعية الغرّاء" التي أسسها الشيخ عبد الغني الدقر، بهدف ترسيخ فكرة الاندماج في المتغيرات التي فرضتها الحياة الغربية الحديثة. يضاف إلى الجمعيات سالفة الذكر، ظهور جمعية "التمدّن الإسلامي" في العام 1930، وهي الجمعية التي أسسها أحمد مظهر العظمة، وبهجت البيطار، وفي الفترة ذاتها ولدت جمعية "النهضة الإسلامية" السورية.كان المجتمع السوري يتشكّل من جديد، وفق أنساق تمضي بالتوازي مع مشروع الانتداب الفرنسي، من دون أن تتطابق معه، لذا تشكلت بالإضافة إلى الجمعيات الإسلامية جمعيات مسيحية فاعلة، كحال "جمعية الشبيبة الأرثوذكسية" التي أُعلنت في بيروت في زمن الثورة السورية، وانتشرت في سوريا لاحقًا خلال العشرينيات، وافتتحت هذه الجمعية فروعاً لها في دمشق وحلب وحمص وصبّت جهودها على تطوير التعليم الأرثوذكسي ومدارسه، كما أسهمت في ظهور قيادات فكرية وسياسية بارزة لاحقاً. وفي أبرشية دمشق وحلب دعم رجال الدين الكاثوليك، جمعية "القديس منصور" بدءاً من عام الثورة 1925، وكان للراهبات والرهبان الكاثوليك الدور الأكبر في إدارتها وتوجيهها. وقد التفتت جمعية "القديس منصور" نحو العناية بالمجتمع والأيتام ودعمت المدارس الكاثوليكية. وواصل المسيحيون السوريون تكريس الهوية العربية عبر تعزيز اللغة العربية، من خلال دمجها بالعمل الخيري، فشكّلوا جمعية "التعليم المسيحي" السورية العام 1930 في دمشق، واتجهوا إلى نشر التعليم الديني بين الأطفال المسيحيين، وتنظيم دروس الأحد في الكنائس، وبشكل مكثّف، إضافة إلى طباعة ونشر الكتب الدينية باللغة العربية.وإلى جوارها، ظهرت جمعية "العمل الكاثوليكي" في دمشق أيضاً، ثم امتدّ نشاطها إلى حلب وحمص، وكان يرعاها المطران أغناطيوس مبارك. ولعل أبرز تلك الجمعيات كانت جمعية "الإحسان الكاثوليكية" التي نشأت في دمشق وحلب، ودعمها البطريرك الوطني غريغوريوس حداد الذي رفض الانتداب الفرنسي وطالب بحرية سوريا وفلسطين. وخلال الحرب العالمية الأولى، فتح أبواب المقرّ البطريركي في الكنيسة المريَمية بدمشق لكل المحتاجين من كافة الأديان والطوائف، واضطر إلى استدانة أكثر من 20 ألف ليرة ذهبية لتقديم المعونات للفقراء، حتى أنه باع صليبه الذهبي الذي أهداه إياه القيصر الروسي نيقولا الثاني ليتمكن من شراء القمح للجوعى والمساكين.دولة عشائرية داخل الدولة
قُدّر عدد سكان سوريا تحت الانتداب الفرنسي بحوالى 2.5 مليون نسمة، في حين كانت نسبة 40-45 في المئة من السكان سوريين من أصول قبلية أو عشائرية، لكن مع اختلاف نمط حياتهم. فمنهم 20-25 في المئة ممن كانوا بدواً رحلًا أو شبه رحّل، يعيشون في البادية السورية والمناطق الشرقية والوسطى والجنوبية. ونسبة 15-20 في المئة ممن استقروا في القرى والمدن، لكنهم ينتمون إلى عشائر كبيرة ويحافظون على روابط قبلية قوية.وكان مردّ حاجة الفرنسيين الماسّة إلى التفاهم مع القبائل، أن البادية السورية كانت تشكل ثلث أراضي سوريا، وكانوا حريصين على السيطرة عليها، لذلك شجّع الانتداب شيوخ العشائر على إقامة كيانات خاصة بهم، بإشراف وحدة فرنسية خاصة، أنشئت العام 1920 هي "وحدة تنظيم نشاط البدو"، إضافة إلى احتياج الانتداب لتأمين ممر دائم وآمن عبر البادية، وفقاً للأنثروبولوجية الأميركية داون تشاتي، في كتابها "سوريا، تشكّل دولة اللجوء وتفكّكها" الصادر عن جامعة أكسفورد العام 2018.ولحظت تشاتي أن بعض العشائر العربية اتبع سياسة حرمتهم في النهاية من الجنسية اللبنانية، على سبيل المثال. فعند إنشاء دولة لبنان الكبير الجديدة "ألحق الفرنسيون وادي البقاع التابع لبلاد الشام بجبل لبنان ذي الغالبية المسيحية، وأجروا أول تعدادٍ وطني سنة 1932، لكن كثيراً من زعماء البدو أبوا التسجيل، ورفضوا السماح لرجال عشائرهم بذلك اعتراضا على وجود الاستعمار الفرنسي".وفي مثال آخر، وبعد هزيمة قبيلة شمّر في نجد، على أيدي آل سعود، لجأ قرابة 40 ألف عائلة بدوية شمّرية إلى الجزيرة في سوريا والعراق، في حين رحلت جماعات أخرى رافضة للانتداب من البادية السورية إلى قلب شبه الجزيرة العربية من عشائر الرولة والحسنة والفدعان والسبعة.أثّرت الثورة السورية الكبرى في السياسة الفرنسية حيال أبناء العشائر، حين رأى الانتداب موقفهم المنحاز إلى الثوار، وانخراطهم في العمليات القتالية وتهريبهم السلاح والعتاد لإمداد الثورة، فضلاً عن مشاركتهم المباشرة في الغارات ضد الفرنسيين. لهذا "بذل الفرنسيون جهودهم من أجل انعقاد مؤتمرات للسلام والتفاهم بين القبائل المتناحرة، واستكملوا جهود السلام بدفع إعانات شهرية لكل زعيم عشيرة مشارك في المؤتمر".قسّم الانتداب عشائر سوريا إلى بدو رحّل وأشباه رحّل، وكان هذا التمييز يعني السماح للعشائر الرحّل بحمل السلاح، فيما تعين على عشائر البدو أشباه الرحّل الحصول على رخصة من الحكومة لحمل السلاح، فلم تخضع العشائر بمعظمها لسيطرة "وحدة تنظيم نشاط البدو"، وغادر كثيرٌ منها سوريا، ومن بقي من زعماء العشائر قدّم فروض الطاعة للفرنسيين، وكان ثمن ذلك منحهم تمثيلاً (كوتا) في مجلس النواب، إذ تم تخصيص 9 مقاعد للعشائر الكبرى. انعكست السياسة الجديدة للانتداب على مجال ملكية الأراضي وعمّقت الخلافات والصراعات بين القبائل. فوُضع قانون جديد للأراضي ونظام جديد لسنوات الملكية ليحلّ محل النظام العثماني. وفي البادية، سَجلت سلطات الانتداب المراعي التي كانت ملكاً جماعياً للعشيرة بأسماء زعمائها، ونتيجة لذلك تستنتج تشاتي أن "وحدات كثيرة من العشائر البدوية غادرت سوريا، ونأت بنفسها عن مجال الفرنسيين السياسي. وبدأ رجال العشائر الذين استقروا في البادية والجزيرة يكثفون اهتمامهم بالزراعة، وبدأت أول مرة ظاهرة التخلّي التدريجي عن تربية الإبل التي أصبحت أقل ربحاً، والاهتمام بتربية الأغنام، وشرعت عشائر أصيلة كثيرة كانت تربي الإبل سابقاً في تربية الأغنام، وهو ما أسفر عن ظهور منافسة حادة لم تكن موجودة من قبل بينهم وبين العشائر التي طالما رعت الماشية".أخذ التحوّل نحو حياة الحاضرة يؤثر في التفاعل السياسي للعشائر وزعمائها، فلم ترق للذين دخلوا البرلمان منهم، بعض مواقف السياسيين، وكذلك لم يتقبلوا "تدخّل الوطنيين السوريين في شؤونهم"، ودفعهم ذلك إلى الحرص على الحصول على دعم الفرنسيين، وهكذا صدر "قانون العشائر" الذي عارضه السياسيون المتمدنون، معتبرين أنه خطوة تدعم "دولة بدوية داخل الدولة". وانعكس ذلك في العديد من الصور، من بينها ما جرى عندما قدّم النواب الوطنيون مشروع قانون يدعو إلى إنهاء حكم الانتداب الفرنسي، لم يحضر للتصويت عليه سوى نائب واحد فقط من مجموع 9 نواب يمثّلون العشائر. كما تأثر نشاط العشائر بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية، والتنافس بين الزعامات المحلية، غير أن معظم العشائر العربية انخرط بقوة في الثورة، ولتقليل تأثيرهم حاولت فرنسا استقطاب بعض زعماء العشائر بغرض تحطيم وحدة قرار الثورة، وعمدت إلى توظيف بعضهم في قوات محلية تابعة لها مثل "الفرق الخاصة"، وقدمت امتيازات لبعض الزعامات العشائرية مقابل الوقوف على الحياد، كمنحهم إعفاءات ضريبية وتوزيع الأراضي عليهم من أملاك الدولة.ومع الوقت شجّعت الإجراءات التي اتبعها الانتداب الفرنسي في نقل العشائر من حياة البداوة إلى حياة الحاضرة، استقرارَ بعض العشائر لزيادة سيطرتها. وعمد بعض شيوخ العشائر إلى شراء أراضٍ زراعية واستثمارها، مما زاد من نفوذهم الاقتصادي. فنتج عن ذلك تمتع بعض العشائر بعلاقات مع الفرنسيين، وتأثرت عشائر أخرى بضغط الفرنسيين لإدخالها في المنظومة الإدارية الحديثة، بينما حاول زعماء عشائر التفاوض مع الفرنسيين بعد هزيمة الثورة عسكرياً، وتراجعت قوة العشائر عسكرياً، لكنها بقيت مؤثرة اجتماعياً وسياسياً، وواصل بعض زعماء العشائر دوره في الحياة السياسية، عبر المجالس المحلية، وفيما انخرط البعض منهم في الأحزاب الوطنية، فضّل آخرون التعاون مع الانتداب لتأمين مصالح عشائرهم.وهكذا سار المجتمع السوري، بتنوّعه، في مقاومة من نوع آخر لسطوة الانتداب، تاركاً الفرنسيين منشغلين بترتيباتهم الأمنية-الاقتصادية، ففشل نمط التعاون الذي أرادت فرنسا تطويره بينها وبين هيكل دولة صنعتها بشكل تركيبي.أما الشيخ تاج الدين الحسني، فقد استسلم لما فرضه بونسو واضطهد الصحافة وحرّم الاجتماعات وحظر على الموظفين التحدّث في السياسة. ومع إخفاق فرنسا، ظهر فشل العمل السياسي والمقاربات التي طرحتها النخبة السورية آنذاك جلياً، فهي لم تكن تملك سوى تحريك الشارع للتظاهر والقبول بشروط أفضل قليلاً للعيش تحت الاحتلال، وفي أحسن الأحوال كان قادتها يعلنون أنهم ينتظرون حدوث تغيير في باريس يأتي بحكومة فرنسية جديدة أقلل تشدّداً من الحكومة التي رفضت إقرار دستور السوريين.وفجأة ودونما مقدمات، فوجئ السوريون بطرح فرنسا خمسة دساتير دفعة واحدة، في 14 أيار/مايو 1930: دستور معدّل لدولة سورية، وأربعة دساتير للبنان وجبل الدروز وجبل العلويين والاسكندرون. وعادت المظاهرات إلى الشوارع رفضاً لهذه الدساتير التي نصّ أولها وفي مادته الأولى على أن "سوريا دولة مستقلة ذات سيادة، وهي جمهورية تسمى الجمهورية السورية".عاد بونسو وأعلن تنظيم انتخابات عامة لتشكيل مجلس نيابي العام 1931، وفقاً لنظرية فرنسا المذهبية في سوريا، وقبلت الزعامات السياسية ذاتها الاشتراك فيها، فأسفرت الانتخابات عن برلمان من سبعين عضواً، وفقاً لمبدأ المحاصصة: 62 نائباً سنياً، و14 نائباً من بقية الطوائف. واجتمع هذا المجلس في 13 تموز/يوليو 1932، وانتخب محمد علي بك العابد، كأول سوري يحمل لقب رئيس الجمهورية. وكان سلفاه صبحي بركات وأحمد نامي، يحملان لقب "رئيس الدولة". وبينما لم يتقن بركات العربية، باستثناء كلمات قليلة كان يحفظها ويردّدها، كان أحمد نامي يلقّب بـ"الداماد" التي تعني "الصهر" لأنه كان متزوجاً من الأميرة عائشة سلطان، ابنة السلطان عبد الحميد الثاني، وكان شركسياً من المهاجرين القفقاسيين الشابسوغ.
(حقي العظم)الحكومة التي كُلّف بتشكيلها حقّي العظم، ضمن صفقة سياسية بين تيارين (وطنيين ومعتدلين)، كانت الحكومةَ السورية الأولى المسؤولة أمام البرلمان، تولد منه وتنال ثقته. وبرز في بيانها جانبان: تنموي وسياسي. أما الأخير، فقد تجسّد في إعلان الحكومة نيتها عقد معاهدة مع فرنسا "تحقّق رغائب البلاد في تحديد العلاقات المقبلة بين فرنسا وسوريا، وتمهّد لدخول سوريا في جمعية الأمم"، وذلك انسجاماً مع وعود قطعها المندوب السامي بونسو لم يلتزم بها حتى تاريخ عزله عن منصبه وتعيين المندوب السامي الفرنسي الجديد الكونت دامين دو مارتيل خلفاً له.الكونت دو مارتيل كان نموذجاً مختلفاً. سارع على الفور إلى فتح باب الحوار مع الكتلة الوطنية، وأعلن برنامجه الخاص لمكافحة البطالة، بتمويل بلغ عشرة ملايين ليرة. فصنع لنفسه شعبية في الشارع السوري حتى لقّبه بعض المشايخ في جوامع دمشق بـ"حبيب الله".(*) يتبع: ظهور البورجوازية الوطنية السورية الجديدة ومواجهة الواقع.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top