شهدت مناطق الساحل السوري أحداث عنف طائفي دامية خلال الفترة 6-10 آذار/ مارس 2025، وذلك في أعقاب مواجهات عسكرية بين فلول من نظام الرئيس السابق بشار الأسد، وقوات الأمن التابعة للإدارة السورية الجديدة، أسفرت عن سقوط مئات القتلى من المدنيين، وقد يكون العدد تجاوز الألف، والعشرات في صفوف قوات الأمن العام، وكذلك من المتمردين المحسوبين على النظام السابق. تعد هذه الأحداث نقطة تحول، ويقرر اتجاهها سلوكُ القوى السياسية الفاعلة في سوريا، ولا سيما الإدارة الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام.
خلفيات أحداث الساحل وتداعياتها
تصاعدت في الأسابيع الأخيرة الهجمات التي تشنها مجموعات من فلول النظام السابق ضد قوات الأمن العام التي تتبع الإدارة السورية الجديدة في مناطق الساحل السوري. وكانت هذه الإدارة، التي نجحت عشية سقوط النظام في تجنّب حصول تجاوزات طائفية على نطاق واسع، قد دعت فلول النظام إلى تسوية أوضاعهم وتسليم سلاحهم مباشرة بعد سقوطه. وقد استجاب عشرات الآلاف من منتسبي الجيش والأجهزة الأمنية ووزارة الداخلية التي جرى حلها فعليًّا لحظة سقوط النظام، ورسميًا في ختام "مؤتمر النصر" الذي عقدته الفصائل المسلحة في 29 كانون الثاني/ يناير 2025، واختارت خلاله أحمد الشرع رئيسًا انتقاليًا للبلاد. وقد مُنح هؤلاء بطاقات مؤقتة تسمح لهم بحرية التنقل، من دون إعفائهم من الملاحقة القانونية في حال ارتكابهم جرائم. وشملت التسويات أيضًا عددًا من كبار ضباط النظام ومسؤوليه، يعتقد أن بعضهم أبرم اتفاقات تسوية لتجنب القتال أثناء عملية "ردع العدوان"، مثل اللواء طلال مخلوف، قائد اللواء 105 في الحرس الجمهوري. وبحسب محافظ اللاذقية، بلغ عدد الذين تقدموا بطلبات لتسوية أوضاعهم أكثر من 85 ألف عنصر، في حين رفض آلاف آخرون التسوية أو تسليم سلاحهم، ولجؤوا إلى الجبال عند دخول إدارة العمليات العسكرية مناطق الساحل السوري. ويُعتقد أن بعضهم مطلوب في جرائم كبرى ارتكبوها خلال الصراع الذي امتد أكثر من 13 عامًا، ومن ثمّ فهم لا يملكون خيارًا سوى القتال أو مواجهة العدالة.
ظلت خطوة الحل الشامل وغير الانتقائي للجيش، وخطوات التخلص من عشرات آلاف الموظفين في مؤسسات الدولة إجراءات خلافية، ولا سيما أن الإدارة الجديدة ليست قادرة ولا لديها أو لدى الاقتصاد السوري حاليًا بدائل لاحتواء الضرر الناجم عنها، كما عبرت عن موقف مغترب عن مؤسسات الدولة عمومًا، لا النظام فحسب.
خلال الأسابيع الأولى بعد سقوط النظام، كانت هجمات الفلول ضد السلطات الجديدة تهدف إلى الضغط من أجل التوصل إلى تسوية تفضي إلى إصدار عفو عام، لكن الأمور أخذت منحى أكثر حدة وتنظيمًا في الأسبوع الأخير، عندما شنت هذه الفلول عملية عسكرية منسقة شارك فيها آلاف العناصر تحت قيادة ما سمّي بـ "المجلس العسكري لتحرير سوريا"، وهو إطار عسكري أعلن عن تأسيسه العميد غياث دلة، الضابط السابق في جيش النظام، وقائد ما يسمى "ميليشيا الغيث" العاملة في صفوف الفرقة الرابعة، التي كان يقودها ماهر الأسد، شقيق رأس النظام السابق. وردت قوات الإدارة الجديدة بهجوم لم يستثن المدنيين. شمل هجوم الفلول مدن الساحل السوري الكبرى جميعًا (اللاذقية وطرطوس وجبلة وبانياس) في محاولة للسيطرة على مراكزها، كما جرت معارك طاحنة في ريف تلك المدن أسفرت عن سقوط عشرات القتلى في صفوف قوات الأمن العام، معظمهم سقطوا في كمائن محكمة. وبسبب شراسة الهجمات وقلة عدد عناصرها اضطرت الحكومة إلى الاستعانة بفصائل معارضة غير منضبطة لصدّ الهجوم، ارتكب بعضها مجازر طائفية في المناطق والقرى العلوية التي دخلتها. وشارك في ذلك أيضًا بعض الوحدات من قوات الأمن العام في سلوك انتقامي واضح. وأظهرت الصور مشاهد مروعة لقتل عائلات بأكملها، هذا عدا الإذلال على أساس طائفي. وقد بين هذا السلوك وجود فجوة كبيرة بين الخطاب الإعلامي للقيادة في دمشق وثقافة عناصر هيئة تحرير الشام؛ فهؤلاء لم يتحولوا إلى جنود مسؤولين في جيش وطني بمجرد اتخاذ قرار بتسميتهم جيشًا أو قوات الأمن العام. وكان كثير من المدنيين من محافظات إدلب وحماة وغيرها توجهوا إلى المناطق الساحلية لمساعدة الحكومة في صد الهجوم في عملية تحشيد طائفي واضحة، وكانت التصريحات الأولى للمسؤولين مُرحبةً بها بوصفها تعبيرًا عن وحدة الشعب والدولة. وقد أسفرت هذه المجازر عن سقوط مئات القتلى من الطائفة العلوية، بينهم نساء وأطفال، في حين فرّ الآلاف إلى الجبال أو عبروا الحدود مع لبنان. والحقيقة أن الأعداد الفعلية غير معروفة بعد فقد تتجاوز الألف، كما أن وسائل الإعلام منعت من التحرك والتغطية بحرية. وغالبية الفيديوهات التي يعتمد عليها صورها مقاتلو الهيئة بأنفسهم. واستهدف فلول النظام، بدورهم، العائلات على الطرقات العامة بين اللاذقية وإدلب.
وبهدف استمالة الطائفة العلوية، التي كانت تعتمد كليًا على الدولة في الحصول على فرص عمل ومصادر دخل، استثمر المتمردون من فلول النظام السابق في مشاعر الخوف والإقصاء التي تنتشر في أوساط الطائفة العلوية بعد حلّ الجيش السابق وأجهزته الأمنية، إضافة إلى سياسات التسريح التعسفي التي تبنتها الإدارة الجديدة في إطار ما عدّته مكافحة الفساد والمحسوبية وتخفيف الأعباء المالية، مع أن الاعتبارات الطائفية كانت واضحة في عمليات التسريح، إلا أن نجاحهم ظل محدودًا.
كشفت مجازر الساحل الطائفية، والتي جرى فيها استهداف المدنيين العزل، عن احتقان طائفي شديد في أوساط المجتمع السوري، وعمّقت الشروخ الموجودة فيه، وألحقت أضرارًا بالغة بصورة الحكومة السورية الجديدة وبجهودها في توحيد البلاد ورفع العقوبات الدولية (الأميركية خصوصًا) عنها. وقد سارعت الحكومة التي أدركت مقدار الضرر الذي لحق بصدقيتها نتيجة فشلها في منع وقوع المجازر، التي ارتكبتها فصائل عسكرية محسوبة عليها، إلى تشكيل لجنة تحقيق في هذه الأحداث، وتعهدت بمحاسبة المسؤولين عنها، وشكّلت لجنة للحفاظ على السلم الأهلي في الساحل تضم ممثلين عن أبناء المنطقة.
مزالق الطائفية
ليست الطائفية مسألة جديدة أو طارئة أو استثنائية في سوريا، وإن التعامل معها من هذا المنطلق هو عملية إنكار. وتُجنِّب عملية الإنكار القيادات السياسية والإعلامية والثقافية مواجهة خطرها. عرفت سوريا تفجّر العنف الطائفي في كثير من المنعطفات في تاريخها، ولسنا بصدد مراجعة هذا التاريخ. ولكن الظاهرة تتخذ بعدًا خطيرًا في مرحلة انتشار الخطاب الشعبوي، ووسائل التواصل، والترحيب بالمشاركة الجماهيرية في الخطاب الثوري.
ليست مصادفة أن بدايات الثورة حملت شعارات صادقة مثل "لا للطائفية"؛ لأن الناشطين أدركوا خطرها وخوف الناس من تفجّرها إذا سقط النظام. فقد أدت سنوات طويلة من حكم عائلة الأسد، والطغمة التي تشاركها نِعَم الحكم من جميع الطوائف، إلى توظيف أوساط واسعة من المنتمين إلى الطائفة العلوية في أجهزة الدولة، ولا سيما الأجهزة الأمنية بدوافع الولاء. لم يكن غالبية هؤلاء من الحكام، بل من المحكومين. وفي ظل هذه العقود الطويلة من القمع، جرت عملية تدريجية لتحويل السوريين السنة إلى طائفة؛ طائفة الأغلبية المظلومة، لا سيما أن بعضهم كان يعتقد أن الحكام هم العلويون والمحكومون هم المسلمون السنة، مبسِّطًا طبيعة نظام الحكم إلى درجة التعمية والتجهيل، ومتجاهلًا الظلم اللاحق بالكرد والدروز والعلويين أنفسهم. ويذكّر ذلك بتحويل الشيعة العراقيين إلى طائفة مظلومة في ظل ما عُدّ حكم الأقلية السنية في العراق (وهو خطاب وجد قبولًا في الغرب أيضًا). ونشطت في المجتمع السوري قوى سياسية واجتماعية وثقافية من جميع الطوائف والانتماءات، قاومت هذه التعميمات، ومنها رجال ونساء قضوا عقودًا في سجون الأسد. وفي المقابل، كانت ثمة قوى سياسية منظمة تروج الخطاب الطائفي لأغراض التحشيد، تتراجع عنه أحيانًا، ثم تعود وتتبناه.
مع تحول الثورة إلى العنف المسلّح، جرت عمليات قتل على خلفية طائفية قامت بها ميليشيات النظام، وكذلك فصائل معارضة. هذه الظاهرة ليست جديدة إذًا. ولكن القوى المؤيدة للثورة غالبًا ما تجاهلت الخطاب والممارسة الطائفيين لدى الفصائل المسلحة، ولا سيما الإسلامية التي لم تتبنَّ أصلًا خطاب الثورة، خشية تفريق الكلمة وتقديم خدمة غير مباشرة للنظام.
وبعد انهيار النظام، انتشر شعور أن الحكم انتقل من الأقلية العلوية إلى الأكثرية السنية؛ وهو شعور زائف. فالسنة محكومون حاليًا أيضًا مثل بقية الطوائف. صحيح أن الحكام الحاليين سنة في أصولهم وعقيدتهم، ولكنهم يشكلون أقلية صغيرة عددًا ومذهبًا قياسًا بعدد السنة السوريين وتنوعهم الهائل. وعلى كل حال، لا يجوز قياس الأمور بهذه المعايير، ولكن من يستخدم الطائفية يقع في هذا التناقض. يجب وقف الترويج لهذه المقولات التي تهدف إلى جعل الطائفية السنية قاعدة النظام الرئيسة. فأولًا، لأن هذا لا يكفي؛ فالسنة لا يحيون على الهوية الطائفية، فهم يحتاجون إلى مصادر العيش الكريم وحقوق المواطنة. وقد تلهي الطائفية وسياسات الهوية عن المطالبة بها لفترة قصيرة فقط. ثانيًا، يقود هذا الخطاب الضاغط الإدارة الحالية إلى تبني مقاربة "نحن" و"هم" (مضمرة) تجاه بقية فئات الشعب السوري؛ ما يجعل من الدولة طرفًا اجتماعيًا قبل أن تباشَر عملية بنائها، بعد أن هدمت غالبية مؤسساتها. فبدل العلاقة بين المواطن والسلطة، ومؤسسات المجتمع المدني والسلطة، تصبح المطالب نوعًا من الصراع. وهذا لا يُحلّ إلا بتسويات من دون عملية اندماج في "شعب سوري واحد" (كما في الشعار الشهير)، فلا يبقى منه سوى تسمية تطلق لتجمع "بالاسم" ما هو متفرق في الواقع. ومن الضروري مواجهة هذا الخطر قبل أن يستفحل. ثالثًا، لا يجوز القول إن الإدارة لا تعترف بأكثرية وأقلية وتتعامل في الوقت ذاته على أنها هي الأكثرية والبقية أقليات. في هذه الحالة، تصبح المحاصصة هي الحل الوحيد؛ فلا يجوز فرض طابع بعينه على الدولة (يعده البعض طابعًا أكثريًا، مع أنه ليس كذلك)، ثم مطالبة من أصبحوا "الآخرين" بالاندماج في ظله. فإما دولة مواطنة وإما محاصصة (مضمرة أو معلنة)، ومن لا يستطيع القبول بمصطلحات المواطن وأمة المواطنين، عليه أن يقبل بالمحاصصة. أخيرًا، تعني الطائفية السياسية العنف الكامن، وتعبيره الرئيس هو الخوف الدائم الذي يعيشه الناس في بعض المناطق؛ لأنهم ليسوا آمنين على حياتهم وأملاكهم، والذي يمكن أن يخرج من الكمون في أزقة المدن ليلًا، أو في إغارات متبادلة بين قوى نائية، أو ينفجر في صورة مجازر دموية تشكل وصمة عار. والدليل على عمق الأزمة أن ثمة من يدافع عما حصل أو يبرره بعد انكشاف الحقائق.
ردات الفعل الدولية
لاقت المجازر الطائفية التي شهدتها منطقة الساحل موجة استنكار واسعة عبّرت عنها خصوصًا القوى الدولية. ففي تغريدة على منصة "إكس"، قال وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، إن بلاده "تدين الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين، بمن فيهم الجهاديون الأجانب الذين قتلوا الناس في غرب سوريا في الأيام الأخيرة، وأن الولايات المتحدة الأميركية تقف مع الأقليات الدينية والإثنية في سوريا، بما في ذلك المجتمعات المسيحية والدرزية والعلوية والكردية، وتقدّم تعازيها لأسر الضحايا"، وأنه "يتعين على السلطات المؤقتة في سوريا محاسبة مرتكبي هذه المجازر ضد الأقليات". أما روسيا فوصف وزير خارجيتها سيرغي لافروف ما حصل بأنه "انفجار للعنف غير مقبول تمامًا"، وأن روسيا "تشعر بالقلق إزاء كل ما يجري في سوريا"، وأنها "تبذل جهودًا مع المجتمع الدولي لضمان الأمن لجميع الطوائف والفئات وجعل سوريا خالية من التهديدات الإرهابية"، وأنها "تتشاور مع الولايات المتحدة في الأمم المتحدة"، حيث "يجري العمل على صياغة ردود فعل مناسبة". وقد لجأ مئات المدنيين من الطائفة العلوية إلى قاعدة حميميم العسكرية الروسية في اللاذقية خلال الأحداث الطائفية. وفي حين عبّر المفوض السامي لحقوق الإنسان فولكر تولك عن تلقي الأمم المتحدة "تقارير مقلقة للغاية تحدثت عن مقتل عائلات بكاملها تضم نساءً وأطفالًا، فإنه ينبغي إجراء تحقيقات سريعة وشفافة ومحايدة في كل الجرائم والانتهاكات الأخرى، ويجب محاسبة المسؤولين عنها انسجامًا مع معايير القانون الدولي وقواعده. والعدالة الانتقالية حاجة ملحة". وعقد مجلس الأمن، في 10 آذار/ مارس، جلسة مغلقة بطلب من روسيا والولايات المتحدة لبحث التطورات الأمنية في الساحل السوري، وسط دعوات "لمحاسبة المتورطين والدخول في عملية سياسية تضمن حقوق الأقليات". أما الاتحاد الأوروبي فنشر بيانًا عبّر فيه عن "إدانته الشديدة للهجمات الأخيرة على قوات الحكومة المؤقتة في المناطق الساحلية من سوريا، والتي نسبتها تقارير إلى عناصر موالية للأسد، وجميع أعمال العنف ضد المدنيين". وطالب بضرورة "حماية المدنيين في جميع الظروف مع الاحترام الكامل للقانون الإنساني الدولي". كما دعا "جميع الجهات الخارجية الفاعلة إلى الاحترام الكامل لسيادة سوريا ووحدتها وسلامة أراضيها". وأصدرت ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا بيانات مماثلة، وألقت أخبار المجازر في الساحل السوري بثقلها على اجتماع دول جوار سوريا الذي عقد في عمّان في 9 آذار/ مارس، بمشاركة وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء هيئات الأركان ومديري أجهزة المخابرات في تركيا والأردن، ولبنان، والعراق، وسوريا. وأكد الاجتماع أن "أمن سوريا واستقرارها ركيزة للأمن والاستقرار في المنطقة"، ودان "المحاولات التي تستهدف أمن سوريا والإرهاب بكل أشكاله، والتعاون في مكافحته عسكريًا وأمنيًا وفكريًا".
أما إسرائيل، فقد استغلت هذه الأحداث وحاولت الاستفادة منها، إذ اتهم وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس قوات الحكومة السورية بارتكاب "فظائع ضد المدنيين العلويين"، وجدد التأكيد على أن إسرائيل "ستحمي نفسها من أي تهديد قادم من سوريا"، وأن "الجيش الإسرائيلي سيبقى في المنطقة العازلة وفي مرتفعات جبل الشيخ، وسيواصل حماية مستوطنات الجولان والجليل"، وأنه سيعمل على إبقاء جنوبي سوريا خاليًا من الأسلحة والتهديدات، متعهدًا بـ "حماية السكان الدروز في المنطقة، ومن يمسّهم سيدفع الثمن"، على حد تعبيره.
خاتمة
ألحقت أحداث العنف الطائفي التي شهدتها مدن الساحل السوري وأريافه، وأسفرت عن مقتل المئات من المدنيين العزل، أضرارًا بالغة بمسار الانتقال السوري الذي بدأ بعد سقوط نظام الأسد، وما زالت وجهته غير معروفة إلى الآن؛ فلا إجابة عن سؤال: انتقال إلى ماذا؟ فقد عمّقت هذه الأحداث الشروخ بين فئات المجتمع السوري وأظهرت عجز الحكومة عن حماية مواطنيها، وبددت كل الجهود التي بذلتها على مدى ثلاثة أشهر منذ سقوط النظام للظهور بمظهر الحكومة المسؤولة والقادرة على تجنّب أعمال العنف الطائفي. فهي لم تتعامل مع أصل المشكلة المتعلقة بالطائفية التي تبدو أمرًا رائجًا ومصرحًا به في بعض الأوساط، بل ويتطابق مع دعم الإدارة الجديدة في نظر البعض. لا يجوز تجاهل قضية الطائفية، والمطابقة الموهومة للأكثرية الطائفية بالأكثرية السياسية، أو الحاكمة. ولا بد من مواجهة مسألة المواطنة السورية المتساوية التي تشمل المساواة في الحقوق وفي فرص المشاركة في مؤسسات الدولة، التي تبدو التعيينات جارية فيها على أساس الولاء لا الكفاءة. وقد تكون أحداث الساحل ألحقت ضررًا بالغًا بجهود الحكومة لرفع العقوبات، الأميركية خاصة، حيث تضع واشنطن حماية الأقليات شرطًا رئيسًا لرفعها. ويعد رفع العقوبات الأميركية ضروريًا للنهوض بالاقتصاد السوري الذي دمرته الحرب، ولإعادة الإعمار، ولنجاح الحكومة الجديدة في التعامل مع التحديات المعيشية الصعبة.
ورغم أن الحكومة السورية سارعت إلى احتواء الضرر، إذ اعترفت بوقوع انتهاكات طائفية، وتعهدت بالتحقيق في أحداث الساحل من خلال إنشاء لجنة تحقيق ومحاسبة المسؤولين، فإن استعادة ثقة السوريين تتطلب اتخاذ خطوات إضافية مهمة على رأسها إشراك كل فئات المجتمع في العملية السياسية، وتشكيل حكومة تمثيلية بعيدًا عن الإقصاء والاستئثار، وتجريم التحريض الطائفي، بما في ذلك الجاري دون توقف على وسائل التواصل، والتعامل مع كل السوريين باعتبارهم مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية والدينية والإثنية، والذي لا يجوز أن يبدو حسنة أو مكرمة، والإسراع في إطلاق مسار عدالة انتقالي يكفل محاسبة المجرمين، ويحدّ من عمليات الانتقام خارج إطار القانون، ويطوي صفحة النظام السابق وانتهاكاته.