عند الحدود، رجلا أعمال بريطانيان يستعجلان العبور إلى دمشق: "أي عمل مجزٍ في هذه البلاد يجب أن يتأسس الآن". في مصعد الفندق، رجلا أعمال مصري ولبناني: "نحن هنا منذ شباط الماضي. نريد أن نلتقط فرصة مهمة لأعمالنا". لكن لا نظام مصرفياً جاهزاً، لا بيئة أمنية مطمئنة، لا ورشة تشريعية تواكب خطط الإعمار وطموحات الاستثمار، ولا قوانين حديثة تحمي الأعمال وأصحابها، فيما الوزارات أشبه بهياكل عظمية.
مرة جديدة، الاقتصاد هو البند "السياسي" الأول الذي يمكن أن يأخذ سوريا إما صعوداً أو هبوطاً. ومعه تتحقق الآمال أو تتحطم. لكن ذلك ينتظر ولادة دولة مكتملة الأركان.في الأثناء، ومنذ سقوط الأسد، يبدو أن التسيير الذاتي هو الذي يحكم حياة أهل العاصمة وربما سوريا كلها. كأننا إزاء شبهة "أناركية" غير متعمدة، تشجع الناس على تدبير أمورهم من غير إدارة أو سلطة.
يمكن لمطعم سندويشات أن يقرر الإقفال نهاراً التزاماً بالصيام، وآخر يقرر أن لا قانون يمنعه من العمل أو يفرض عليه الإقفال. يمكن لأحدهم أن يقول لك: التدخين علناً في الشارع أثناء الصيام عقوبته الحبس، وآخر ينفي ذلك كلياً. إنها حيرة إزاء "عقيدة" الدولة المقبلة، تجعل بعضهم يتطوع سلفاً للانصياع أمام احتمال قيام جمهورية إسلامية التوجه والدستور، وتستنفر آخرين لمعارضة الحكام الجدد استباقياً وعلى نحو جذري وبما يشبه التحدي.
ينطبق هذا أيضاً على المجال الثقافي والفني. بعضهم ينتظر اكتمال نصاب وزارة الثقافة، وآخرون يبادرون لنشاطات تبدو وجهتها "الدفاع عن الثقافة العلمانية". والذين نتحدث معهم، ينقسمون بين من ينتظر ما ستقرره السلطة الجديدة الهلامية والحائرة، ومن لا يريد أي انتظار ولكنه لا يجد القدرة على تكوين جماعة سياسية أو إطار تنظيمي جماعي للعمل أو لفرض واقع ما على السلطة الجديدة. خصوصاً أن البلاد امتازت لعقود بالاستسلام لأوامر وتوجيهات الرئيس المطلق، واعتادت على ماكينة بيروقراطية خاملة وضخمة.لذا، السؤال الأقوى الحاضر بين السوريين هو: ما مصير القطاع العام؟ مصدر العيش الشحيح لشطر كبير من المجتمع، كما أنه في الوقت نفسه العائق الكبير أمام بداية الإصلاح والتعافي، ومن ثم إعادة ترتيب الطبقات والبنية الاجتماعية-الاقتصادية. فالقطاع العام، كإدارة ومؤسسات منتجة وشركات أساسية ومرافق صناعية كبرى، يشكل القسم الأعظم من وظائف السوريين. وكانت مشكلة رواتبه مثلاً في الشهور الأخيرة سبباً مباشراً لتأليب سكان الساحل على السلطة. وإذا كان من المستحيل إبقاء هذه البيروقراطية المتضخمة والتي يعشش فيها الفساد، إلا أن إحالة مئات الآلاف من المدنيين والعسكريين إلى البطالة، ستكون بمثابة وصفة سامة للاستقرار الاجتماعي، في لحظة لا تخلو من الهشاشة الأمنية أيضاً.
بمعنى آخر، وبخطورة التوتر الطائفي أو العرقي، فإن تبني اقتصاد السوق الذي سيترافق مع تدفق المال الخليجي خصوصاً، والاندفاع إلى الخصخصة، سيحدث زلزالاً اقتصادياً واجتماعياً من غير المعروف كيف يمكن تفادي أضراره، أو مدى قوته التدميرية على الفئات الأكثر ضعفاً.من الاقتصاد إلى النظام السياسي المنتظر إلى إنشاء جهاز الشرطة أو إعادة إطلاق التلفزيون الرسمي، أو تحديد مصير مصنع الكحول الذي تملكه الدولة، الحيرة تطال كل تفاصيل سوريا الجديدة.
ومن الواضح أن كرنفال التحرير انتهى، وبدأت الوقائع الصعبة. أخبار الفظاعات الآتية من الساحل إلى دمشق، تنشر تشاؤماً وتوتراً بين السكان الذي هم من أطياف ومناطق سوريا كلها، يضاف إلى التوجس المتصاعد من الذين يمسكون بزمام السلاح والأمن والسلطة في العاصمة. فهؤلاء، الآتون من نواحي إدلب على الأغلب، يُنظر إليهم في العاصمة على أنهم محافظون جداً وريفيون ويحملون ثقافة اجتماعية ودينية، يستصعب أهل العاصمة القبول بها أو التعايش معها.
هذا "التوتر" الاجتماعي، قابل لأن يتطور إلى مشكلة سياسية أيضاً. أحدهم قال: "هل تقبل أن يأتيك أجنبياً ليمسك بأمنك؟". وكان يقصد بالأجنبي ذاك الآتي من إدلب (!).يمكن وصف الحضور الإدلبي بالنسبة للدمشقيين، بأنه عبارة عن صدام ثقافي، لا يقل فعالية وأثراً عن سيرة نزول العلويين من جبالهم إلى المدن والعاصمة، وإن اختلفت في مسائلها التاريخية وظروف وصولها إلى السلطة.
الدمشقية الآتية إلى مدينتها، وهي غير المتدينة، كانت ساخطة من توقف "الأذان الجماعي" في الجامع الأموي، بإيحاء من السلطة الدينية الجديدة، الآتية من إدلب والتي أزاحت خطيب المسجد، سليل عائلة الخطباء التقليديين: "حرموني من متعة سمعية في مساء محيط المسجد، حيث يخرج الناس للتنزه والتسوق وقضاء الوقت". كأن تهديداً مسّ هوية العاصمة، منتزعاً منها طقساً رمضانياً قديماً وراسخاً له اعتباره الوجداني أكثر مما هو شعيرة دينية أو إيمانية.
دمشقية أخرى كانت حاسمة بقولها: "الدمشقيون صاروا أقلية". وهي على الأرجح تقصد صفوة سكان العاصمة، ومتصدريها من العائلات الكبيرة. وكانت بدورها تعبّر عن نفورها من "الهيمنة" الجديدة، رغم حماستها لانتصار الثورة وسقوط النظام. راحت تضحك وهي تخبرنا عن الصدمة على وجوه شباب إدلب إذ رأوها تعانق زملاءها وتقبّل وجناتهم، في مكان عام.هذا الصدام في دمشق ليس طائفياً أو سياسياً في مناحٍ كثيرة، وإن كان في مناطق أخرى يأخذ طابعه الطائفي ويتغذى من تاريخ ضغائن وثارات مؤجلة، على نحو ما شهدناه في الأيام الأخيرة من مجازر مروعة، ستشكل انعطافة في مسار "تأليف" الكيان السوري ودولته.
في مطعم الإفطار، انتقلت الشاشات التلفزيونية فور انتهاء بث أذان المغيب إلى فيديوات الأغنيات العربية الصاخبة، ليتحول الإفطار إلى ما يشبه سهرات "الفرفشة". إنها الحيرة مجدداً التي لا تخلو من غرائب التلفيق الثقافي. فيما بعض الحاضرين على المائدة من شبان إدلب مستأنسين تماماً بكل ما يجري أمامهم.
من الصعب الآن معرفة من سيهضم الآخر: دمشق أم "الفاتحون". فتاريخ المدن يحمل الغلبة على الوجهتين.