2025- 03 - 12   |   بحث في الموقع  
logo باسيل عرض مع السفير الروسي للتطورات في لبنان والمنطقة logo بوغدانوف بذكرى كمال جنبلاط: ترك أثرا عميقا في تاريخ دولته وشعبه والشرق الأوسط برمته logo جنبلاط عرض مع وفد رابطة متفرغي اللبنانية لشؤون الجامعة وملفاتها logo الاحتلال يداهم ريف القنيطرة.. الأهالي يرفضون المساعدات الإسرائيلية logo إجراء "ترقيعي" للمصارف... هدفه الإيحاء بهذا الأمر! logo "إبداع وزير الأشغال".... نائب "التيار" يتحدث عن إقصاء المسيحيين! logo إستحقاق يتحرّر من السياسة... و"كلمة الفصل" للمصلحة! logo "تسهم بعودة النازحين"... رجّي: رفع العقوبات عن سوريا مصلحة للبنان
"معاوية" بين التعظيم والتهشيم
2025-03-12 11:55:44

تحوّل مسلسل معاوية بين ليلة وضحاها، وقبل أن يُباشَر بثّه الذي تأخر عامَين كاملَين، ومنذ حلقته الأولى، من خطاب جمالي وفني، إلى خطاب مذهبي يشدّ من أزره أتباعه ومريديه، ويشتدّ أوار ناره في المنصات الإعلامية بين الأطراف المتنازعة. وكان من المرتقب أن تعرض قناة دينية عراقية مسلسلاً يضاهيه بالإمكانات والبذخ الإنتاجي، عن أبي لؤلؤة المجوسي قاتل الخليفة عمر بن الخطاب، لم يُعرف مآله، إن كان أُنجز، أو صُرف النظر عنه، وذلك في سياق التنافس الشيعي السني على استقطاب جمهور المشاهدين. كما أنّ قسماً من الطائفة السنية، لا سيما علماء الأزهر، وبعض المتشددين الدائرين في فلكهم، ينهون عن التصوير التشبيهي للرسول محمد وصحابته، وينزهونهم عن أية مماثلة أو تجسيد. وحيث إنّ الصورة هي إحدى أهم وسائل التواصل، فقد تأرجحت بتأثير من الحداثة المعولمة، بين قطبي التحريم والتحليل الدينيين، إلى أن استقرت في حدود ما، على أسلمة ما يمكن أن تنتجه الميديا والثقافة البصرية، وعلى رأسها التلفزيون، الذي كرّس جبروته وسلطانه على الجميع، والذي يُعدّ أهم وسيط في الصناعة الثقافية، وفي تشكيل صورة العالم، وصناعة الرأي العام.
ولم يُقارَب مسلسل معاوية في أولى حلقاته إلا بوصفه حقيقة تاريخية ثابتة، لذلك كان تركيز المنتقدين على ما حسبوه تحريفاً للحقائق، أو مغالطات تاريخية تتضمن الطبيعة المغايرة للأمكنة، وطرازالملابس، وشكل الأسلحة، وسوى ذلك. في حين أنّ مضمون أي سيناريو تاريخي، لا يتشكّل عادة من معطيات ووقائع خام، ولا مناص من أن يعدّل الكاتب الأحداث ويحوّرها ويرفدها بعناصر جديدة. إذ إنّ المخيلة السردية تتواشج أحياناً بشكل وثيق مع الواقع، الذي يضفي القيمة المعرفية على مفهوم الحقيقة في سياق هذا الالتحام بين العالمَين الحقيقي والمبتكر. ومشاهدو الدراما التلفزيونية، كما قرّاء الرواية، مدعوون إلى الولوج إلى عالم المؤلف، أو العالم الذي يتخيله أو يبنيه السيناريست، وإلى إبرام اتفاق ضمني معه، يسميه أومبرتو إيكو "الميثاق الروائي". وهو أن يعرف القارئ أو المشاهد أنّ القصة هي قصة خيالية، وعليه أن يتظاهر بالاعتقاد بأنّ ما تخبره به قد حدث بالفعل، وأنه يصدق كل ما ترويه، أو تعرضه أمامه. وبدلاً من أن يشاهد عالماً خيالياً من وجهة نظر خارجية، فإنه يغدو متموضعاً داخل عالم الخيال، طوال مدة هذه اللعبة، باعتبار ما يقرأه أو يشاهده عالماً مألوفاً له. ونحن إزاء ذلك، نختبر أنفسنا ومعرفتنا وعاطفتنا، ونواجه مشاكلنا، على ضوء تفاعلنا مع العالم الأثيري الذي ينبعث من الشاشات المضيئة، أو من الصفحات المطبوعة. وهنا أهمية التدقيق في اللحظات والمساحات التي تُطمس فيها الحدود بين الخيال والواقع، حيث يستلهم العديد من الأفلام والمسلسلات التىفزيونية هذا الغموض، لتشكيل فضاءاتها الفنية والروائية. وقد أقرّ محاضرون جامعيون أميركيون أنّ فيلم "لينكولن" الذي عُرض العام 2012 أفضى بهم إلى فهم أعمق لشخصية الرئيس الأميركي السادس عشر، لا سيما معرفة الأسباب التي دفعته لتحرير العبيد، أكثر من الأبحاث التاريخية المتعلقة بتلك الحقبة.
فالحقيقة ليست دائمة وثابتة، إنما هي خاضعة لإعادة تواصل ومراجعة يبنيها تاريخ الوعي وتطوره، الذي يشارك في قسط منه التلفزيون والسينما في عصرنا، حيث طاول التغيير فنهما وآليات عملهما، كما فن التصوير والنحت، بفضل الثورة الرقمية التي قلبت صورة الواقع، إلى صورة افتراضية، والزمن المعيوش إلى زمن متخيَّل.
ومن خلال جدلية هذين الزمنَين، يؤدي فن دراما دوراً مهماً في نقل الواقع أو التلاعب به. وعادة ما يتمتع المنحى الدرامي بمخيلة إبداعية، وبخلق مجازات بصرية، وعليه فإنّ مَن يسعى إلى اكتشاف الحقيقة في المسلسل الذي يروي سيرة معاوية، سيخفق حتماً في تحقيق مبتغاه، لأن دور الدراما التاريخية ليس مرتهناً بصحة الأحداث، بقدر ما يقوم هذا الدور على توظيفها، وإحياء البواعث الاجتماعية والإنسانية التي قادت البشر إلى التفكير والشعور والتصرّف بطريقة دون أخرى، كما فعل هؤلاء الناس في ذلك الوقت، وفي تلك الظروف. ووفق الدكتور شربل داغر في كتابه "بين الفقه والفن - النزاع على الصورة ـ" فإنّ الصورة تعكس قيماً راهنة تسقطها على التاريخ القديم، وتحوّرها لمصلحة الجهات المتحكّمة في مسارات الصراع، بعدما باتت قيماً شديدة الاستثمار والرسملة. وربما تحوّلت إلى صناعة استهلاكية تروّج لأفكار وإيديولوجيات محددة، وتبثّ رسائل سياسية وأخلاقية.
وهذه الهيمنة المطلقة للصورة في عصرنا، جعلت من الصورة التلفزيونية في شاشاتنا على وجه الخصوص، بما هي فضاء مفتوح على المشاهدة والتفاعل، حلبة صراع إيديولوجي مبني على مرجعيات دينية واجتماعية متزمتة ومتناحرة، تنبذ كل ما هو خارج، أو مخالف لنمطها الفكري وتصورها التاريخي.
لا تتعلق مقاربة مسلسل معاوية، أو ردود الأفعال المتباينة حوله، بمضمون السيناريو ودقته التاريخية، وإنْ ظهر في الإعلام بعض الآراء الشاجبة والداحضة له. فالكاتب خالد صلاح، بنى مضمون قصته وفق مصادر ووثائق تاريخية متوافرة عادة بين أيدي العديد من الناس، ولم يكن هاجسه الانضباط التاريخي، ولا يُفترض في السيناريست مراعاة دقة الوقائع، وصحة السرديات، وصدق مرجعياتها. ولا يقدح في مهنيته، إنْ هو حاول ان يرتّب عناصر روائية تساعد على اضفاء الطابع الدرامي، على حياة معاوية قبل الخلافة وبعدها، والإضاءة على جوانب معاناته العائلية، عقب وفاة زوجته وحبيبته وأخيه. فالدقة، وفحص المستندات والوثائق، ووضع الفرضيات، عمل يتجاوز مهمة الروائي أو السيناريست إلى عمل المؤرخ. وقد أشار صلاح في تصريحاته الصحافية، إلى أنه وجد ضالته في شخصية معاوية. الشخصية الدرامية بامتياز. وعِبر عدسته التلفزيونية، حاول أن يرسم لها مساراً مخالفاً للمتداول والمعروف، في ما دُوّن من سير الخلفاء المسلمين، حيث الشائع عن معاوية حزمه وحنكته السياسية، وبطشه الدموي، بينما يحاول الكاتب من جهته، أن يستنسخ له صورة أخرى أكثر وجدانية وعاطفية، فيرى فيها وجه الإنسان، أو الحاكم الذي يؤثر حسم أمور سياسته بالكلمة، لا بالسيف. وهذا موقف يفترض أنّ خالد صلاح توصّل إليه في عمله، ولن تظهر تجلياته طبعاً إلا بتطور سياق الحلقات المقبلة. وقد سبق للمفكر الإيراني علي شريعتي في كتابه "الإمام علي في محنه الثلاث" أن نزع عن الإمام علي ثوبه الأسطوري الذي ألبسه إياه مناصروه، ليجعل منه بطلاً تراجيدياً، يشبه البطل اليوناني برومثيوس الذي تجرع المرارة، وعانى القهر، واحتمل قسوة القدر عليه.
والدراما التاريخية التي اقتفى أثرها كاتب المسلسل، تُعدّ مدخلاً لاستحضار أحداث الماضي، لا بهدف تثبيت الحقائق، بقدر فهم مبتغاها في سياقها وزمنها وأبطالها. وعليه، فنحن في حاجة إلى تعزيز معرفتنا بالماضي، عبر مراعاة طريقة انتاج المعرفة التاريخية، وممارسة تفكير خاص، تكون فيه الرواية التاريخية بمنأى عن أي حزازت مذهبية وإيديولوجية بين القراء أو المشاهدين، وتكون وسيلة فعّالة للتدرب على التفكير التاريخي الذي يشارك في بنائه الخيالُ، ويمكن أن يؤدي دوراً في فهم الماضي، بحقيقته المتشعّبة، والمتلوّنة بألوان الحياة.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top