2025- 03 - 12   |   بحث في الموقع  
logo رئيسة الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية السيدة نعمت عون شاركت في انطلاق فاعليات الدورة 69 لمؤتمر"وضع المرأة" في مقر الأمم المتحدة logo بالفيديو… حريق كبير في طرابلس logo ينتحلان صفة أمنية أو حزبية… وهذا ما يقومان به logo جنرال إسرائيلي عن الخطة المصرية: الخيار الوحيد لإدارة غزة! logo غادر مع "الكرسي"... صورة لترودو تثير جدلاً واسعًا logo "بيروت ستشهد أم المعارك"... العريضي: علينا تحصين الجبهة الداخلية وإلا! logo النقاط العالقة بين لبنان وإسرائيل أمام لجان جديدة! logo شخصية فرنسية قريباً في بيروت... ومشوار الإعمار يبدأ من هنا!
"بلاد لا تشبه الأحلام"لبشير البكر...سيرة روائية عبر المطارات والمقاهي
2025-03-12 11:55:44

تصدر قريباً عن دار نوفل/هاشيت أنطوان، السيرة الروائية "بلاد لا تشبه الأحلام" للكاتب السوري بشير البكر، يسرد فيها فصولاً لحكاية مسافر اكتشف بعد رحلة طويلة أن البلاد لا تشبه الأحلام. قد تكون أعلى قامة، أو على العكس، أقرب إلى الكوابيس.
وجاء في نبذة الناشر:
من منطقة الجزيرة السوريّة، من طبيعتها الخاصّة وجبالها الجاثمة على الخرافة والسِحر كجبل سنجار، تنطلق هذه السيرة الذاتيّة، التي تقع في 256 صفحة من القطع المتوسط، بنفَسٍ روائيٍّ شاعريّ فريد، محاولةً إعادة إحياء تاريخٍ مهمَّشٍ للجزيرة، وراويةً حكاية أهل تلك المنطقة المغيّبة ثقافيًّا، ومضيئةً على شخوصها كالرعاة وشخصيّة اليزيدي الفذّة. وفي تناقضٍ ممتع، تنتقل نحو المدن في سوريا ولبنان وفلسطين، وفي أوروبا والعالم العربيّ، راصدةً ملامح اجتماعيّةً وثقافيّةً في تلك البلدان.
بالتنقّل بين القطارات والمطارات والمقاهي، ومن خلال اللقاءات بأناسٍ واستحضار بورتريهات شخصيّاتٍ سياسيّةٍ وفنّيةٍ كياسر عرفات ومحمود درويش، يدوّن الكاتب شهادته على أحداث عاشها أو عايشها، مستعيدًا التاريخ السياسيّ للمنطقة، ومعرّجًا على الشيوعيّة والناصريّة والبعث وحرب الـ67 وانهيار الوَحدة بين سوريا ومصر. في رؤية متكاملة لهذا التاريخ في الستينيّات والسبعينيّات.
وباعتماد التخييل الروائيّ، والانطلاق من الخاصّ إلى العامّ، ترتفع الرواية بالسرد إلى التوثيق لتاريخٍ ثقافيٍّ واجتماعيٍّ وسياسيّ. في تجربة الكتابة هذه، التي تربط بين السيرة الذاتيّة والتاريخ الجماعيّ، فصولٌ لحكاية مسافرٍ اكتشف بعد رحلةٍ طويلة أنّ البلاد لا تشبه الأحلام. قد تكون أعلى قامة، أو على العكس، أقرب إلى الكوابيس.
وتنشر "المدن" هنا مقتطفاً حصرياً من "بلاد لا تشبه الأحلام":
لن تراها ثانيةً
لستُ مستقرًّا على حال منذ أن تسلّمتُ جواز السفر والتذكرة. صار الرحيل على بُعد يومٍ وليلةٍ، بقي عليّ أن أُغلق الباب ورائي جيّدًا، وأغادر. غير مرّةٍ عبرتُ الحدود كمن يجتاز نفقًا، يكفيه أن يُغمض عينيه، ومن ثمّ يفتحهما على النور في الطرف الآخر. هكذا هان الأمر، هي قفزةٌ في الهواء دونما حسابٍ. ومن بعدها كان البحثُ عن دربٍ للخطى الشاردة.
يختلف الأمر هذه المرّة. الانتظار يُغيّر مذاقَها، يجعله مالحًا. وكلّما زاد تخطيط العملية، ترتّبتْ عليها حساباتٌ تُثقل العقل والمشاعر، وتُشتِّتُ الكائن، لكونها تُفجّر لديه تفاصيلَ كان قد حبسها في مكانٍ قصيٍّ، وأهال عليها التراب. وفي الوقت الذي كنتُ أنتظر فيه موعدَ إقلاع الطائرة، ازداد استهلاكي من السجائر، وقلّ نومي وطعامي، ولم أعُد أُطيق شرابًا. لا خوفًا ولا قلقًا، بل حالٌ من اختلاط الأشياء، الذي يأخذ إلى صفاء نقطة الصفر، التي تُظهر التفاصيلَ بأضعاف حجمها الفعليّ.
القطيعة إذن. راودتني عدّة مرّات قبل هذه المرّة، لكنّي تملّصت منها، حاولتُ أن أُبعدها. والآن تبيّن لي أنّي كنتُ أؤجّلها فقط، لم يكن في وسعي مقاومة الإغراء، الذي حملته لي في الأيام الأولى، بعد أن تجاوزت الحدود، وصرتُ قادرًا على التحليق بعيدًا، عن تلك البلاد، التي تحوّلت إلى ثكناتٍ عسكريّةٍ وسجونٍ.
صارت القطيعة تُلحُّ عليَّ، تحوّلتْ إلى كتلةٍ كبيرةٍ من مرارةٍ تُغرق النفس، تجري في الدماء والأنفاس، تذهب وتعود في نداء موجةٍ، تتكسّر بقوّةٍ على شاطئ المنارة في بيروت، يتبعثر رذاذها في الهواء، يُبلّل القلبَ اليابس، يُوقظ أشواق السفر في اتجاهٍ وحيدٍ، بعيدًا عن بلاد السلالة والأهل وأحباب الزمن المفقود في حلب ودمشق وبيروت.
ارتفع ضغطي في فجر ذلك اليوم، وأنا أُغادر مطار بيروت، حينما فحص رجل الأمن اللبناني جوازي. سألني: «أنتَ بشير؟»، فأجبْتُه بهزّة نعم من رأسي. لا أدري هل انتبه إلى تلعثُمي. تركني أنتظر وتوجّه نحو مكتبٍ آخر، وأغلق الباب خلفه. لحسن الحظّ لم يكن خلفي أحدٌ ينتظر، تقصّدت دخول المطار مبكرًا، تحسّبًا من وقوع طارئٍ ما، فيكون لديّ متسعٌ من الوقت لمعالجته، قبل أن تُقلع الطائرة.
هذه هي المرّة الثانية التي سأركب فيها الطائرة. الأولى من مطار دمشق إلى مطار القامشلي، على ظهر طائرة نقلٍ داخليّ للخطوط الجويّة السورية ماركة «سوبر تندار» عتيقة جدًا، تُصدر صوتًا يُعادل صفير قافلةٍ من القطارات. لا أعدّها سفرًا، بل عملية تمرينٍ على الرعب جوًّا، تعامل الطيار خلالها مع المسافرين كأنّهم فرقة من المظلّيين يخوضون تدريبًا عسكريًّا، أكثر من ساعتين من المطبّات، تركتْ لديّ خوفًا من ركوب الطائرة حتّى الآن.
أثناء غيبة الشرطي، أخذتُ أخمّن أنّ المسألة معقّدة، رحتُ أقلِّب الاحتمالات. أرجّح بعضها، وأستبعد الآخر. أكثرها سوءًا أن يمنعني الأمن العام من السفر، يعتقلني ويسلّمني إلى الأمن السوري، وبذلك تنتهي مغامرتي، في أحسن الأحوال، في إحدى الثكنات لأقوم بتأدية خدمة الجندية. كرهتُها وأنا طفلٌ صغيرٌ. شقيقي الأكبر كاد يفقد حياته في حرب حزيران 1967، نجا من الأسر لأنّ طريق انسحابه العشوائي صادفَ من جبل الشيخ إلى لبنان، بينما تلقّى الثاني إصابةً في بطنه، خلال أحداث أيلول 1970 في الأردن، إلى جانب الفدائيين الفلسطينيين.
بقيتْ تلك الجملة كأنّها حكمٌ بالنفي، صادرٌ عن محكمةٍ قضائيةٍ ضدّ متمرّدٍ على السلطة العليا، تخيّلتُ أنّ يديَّ مكبّلتان بسلاسلَ من حديدٍ، وأنّي مخفورٌ بسَريّةٍ من الجنود تقودني إلى سفينةٍ كي أُبحر بعيدًا جدًّا. ظلّ وقْعُها يحضر كما هو، كلّما فكرتُ بالسفر ثانيةً إلى هناك. كما لو أنّ رجل الأمن اللبناني رمَاني بلغزٍ: «لن ترى هذه البلاد ثانيةً». ألقاها نحوي مثل حجرٍ بعد أن عاد من المكتب المغلق، أحسستُ بقسوةٍ في مخارج الحروف، رغم أنّه نطقها بما يُشبه الهمس.
كلّ حرفٍ يحتاج إلى مفتاحٍ خاصٍّ كي أتبيّن المعنى. سألتُ الضابط اللبناني عمّا وراء القصد، لكنّه لم يفصح. وحينما طبع خاتم المغادرة على الجواز، وتأكّدتُ أنّي وضعتُ الخطوة الأولى داخل صالة المسافرين، استدرتُ نحو الوراء، لم يكن هناك سوى مكاتب ضباطِ ختم جوازات السفر، وصفوفٍ طويلةٍ من المسافرين، بدأتْ تكتظّ. كانت تعابير الوجوه غير تلك التي تُثقل ملامح الناس خارج المطار، ذكّرني المشهد بباب السجن في صباح العيد، حينما يُفرَج عن السجناء الذين شملهم العفو، وهم يُغادرون السجن في طوابير، يخرجون على عجلٍ، من فرط الفرح يتعثر بعضهم ببعضٍ.
لماذا أراها ثانيةً، ما دام شيء لن يبقى على حاله؟ فكّرتُ بنزقٍ، ولم يتجاوز ردّ فعلي تلك اللحظة إدارة الظهر، كأنّي أصفقُ الباب خلفي. لماذا عليَّ أن أراها ثانيةً، هل هي ضيعة أبي؟ وإذا كان الأمر على هذا الحال، فليكنْ، وأنا لن أعود إليها، ليذهب كلٌّ منّا في طريقه، من طرفي كنتُ متيقّنًا بأنّ هذا طلاقٌ، ما بعده رجعةٌ.
أنظر من نافذة الطائرة نحو مدينة بيروت، يأخذني التحليق عاليًا نحو فكرة أنّ حياتي الآتية، لن تُشبه التي عشتُها حتى الآن. ما إن وضعتُ قدمي على الدرجة الأولى من سلّم الطائرة، حتّى بدأت رحلةٌ أخرى. لم تكن هناك ممرّاتٌ مباشرةٌ إلى داخل الطائرة، أو سلالم كهربائيّة للصعود، على المسافر أن يتعرّف إلى حقيبته على أرض المطار، ومن ثم يصعد درجًا حديديًّا يتحرّك تحته، وهو يُصدر صريرًا مزعجًا لا يليق بالسفر، وهيبة الطائرة، التي ستنفصل عنه، وتحلّق في الهواء مثل حمامةٍ تهرب من صيّادٍ شرسٍ.
من حسنات هذا الدرج، أنّه أتاح لي، حين وصلت إلى باب الطائرة، أن أستدير إلى الخلف، وأُلقي نظرةً في الفضاء. حدّقتُ إلى ما بعد المطار. بحر بيروت قريب، تأمّلته، اتسعتْ رئتاي تلقائيًّا، أخذتُ نفسًا طويلًا، كأنّي لن أتنفّس هذا الهواء ثانيةً.____________________
بشير البكر كاتب وشاعر سوري (مواليد الحسكة، 1956). نال جائزة الصحافة العربية (2008). رئيس تحرير سابق في "العربي الجديد" وأحد مؤسّسيها، ومشارك في تأسيس مجلّة "بيت الشعر" في أبوظبي. له مؤلفات في السياسة وأعمال شعريّة، وتُرجمت قصائده إلى الفرنسيّة، الإنكليزيّة، والتركيّة.


المدن



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top