انتظارات اللبنانيين من "العهد الجديد"، رئاسة وحكومة، ليست متطابقة، بل تكاد تكون في بعض جوانبها متناقضة، وإن كانت تظللها عناوين عامة في السياسة والإقتصاد.
تحت كمّ غير قليل من شعارات الوحدة الوطنية والإصلاح والنهوض بالاقتصاد واستعادة الثقة ومكافحة الفساد والإعمار وغيرها، تختزن الطوائف اللبنانية سرديات متناحرة، تترجمها رؤية مضخمة لنفسها وبالتالي لدورها ولطموحاتها السياسية. فالطوائف في لبنان ليست هوية دينية لجماعة فقط، بل هي إطار سياسي واجتماعي تعكس توازنات إدارة البلد ورسم سياساته.
يؤكد المحيطون برئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام أن الوصول إلى المواطنة وتطبيق القوانين والاحتكام للدستور، ليست اختراعاً ولا مستحيلاً. فالرجلان يؤمنان باعطاء "ما لقيصر لقيصر وما لله لله" الاّ أن دون التطبيق، هواجس الجماعات وبرامجها وطموحاتها ومصالحها.
وما يبدو اليوم استكانة سياسية للقوى المختلفة، يشبه تماماً هدوء ما قبل العواصف التي ستهب على الحكومة والعهد، بعد انقضاء "فترة السماح" غير المعلنة.
ولأن طوائف لبنان كيانات سياسية لها انتظاراتها ومشاريعها يمكن تلمس أبرز أربع انتظارات للطوائف الأربعة الكبرى.انتظارات المسيحيينمنذ اتفاق الطائف إلى اليوم، وبعد "تلزيم" البلد لنظام الأسد في سوريا، وما تلى ذلك من تهميش للمسيحيين والهجرة الواسعة في أوساطهم، يختبر المسيحيون تراجع دورهم ونفوذهم في المؤسسات السياسية.
ومع انتخاب الرئيس عون، الآتي من المؤسسة العسكرية التي لا تزال تحتل مكانة خاصة في وجدانهم، يتأمل كثر منهم بتفاؤل تحقيق الآتي:
- تثبيت شراكة حقيقية تتجاوز المساواة في العدد في المجلس النيابي والحكومة ووظائف الفئة الأولى، إلى شراكة فعلية في القرار الوطني والسيادي.
- استعادة الدور وتعزيز الحضور خصوصاً في القضاء والمؤسسات الأمنية. والشكوى من تراجع أعداد الراغبين بالانخراط في هذه المؤسسات من المسيحيين تتزايد وتشكل قلقاً في أوساطهم.
- تطبيق اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة التي يعتبرونها مفصلية لضمان استقرار وجودهم في مناطقهم وتثبيت الناس فيها والتخفيف من الهجرة التي لا تتوقف.
- حماية المصالح الاقتصادية بعد الانهيار الكبير للمصارف ومعظم قطاعات الانتاج التي كان عصبها مسيحي. ويتأمل هؤلاء إعادة التوازن الاقتصادي للبلد بما يتيح لمؤسساتهم ايجاد مساحة رحبة في المشهد الاقتصادي.انتظارات السنّةتناسلت جراح كثيرة من جرح اغتيال الرئيس رفيق الحريري في الساحة السنيّة لم تلتئم إلى اليوم؛ لكنّ أشدها ايلاماً الإحساس بغياب المرجعية الذي يترافق مع شعور بهامشية التأثير. فيبدو السنّة وكأنهم اليوم يعبرون الحياة السياسية بلا وجهة.
يضع السنّة العهد تحت الاختبار. لهم فيه شراكة وازنة من خلال رئيس الحكومة. هو "بروفيل" النخب من بينهم، لكنه أيضا "ابن سلام" البيروتي. وكما سواهم من الطوائف لهم انتظاراتهم العامة والخاصة ومنها:
- إعادة التوازن للحياة السياسية الذي اختل لصالح الشيعة ، وبالتالي إعادة الإمساك بفعالية بالدور في السلطة التنفيذية.
- ضخّ الروح ببيروت وإحياء دورها كعاصمة لها دور مركزي مالي وتجاري واقتصادي، كما كمظلة لجميع اللبنانيين. ولا يغيب الرهان على اسقاط التعميم ووسم السنة بالإرهاب وشيطنة مدنهم كطرابلس وصيدا وتهميشها.
- تثبيت الاستقرار الأمني ومنع توريط الشارع السني أو استدراج بعض شبانه في أي نوع من الصراعات العسكرية.
- انتاج "زعامة" أو قيادة سياسية تلتقي حولها الطائفة وتحمل في الوقت نفسه، كما هو منتظر من السنّة اللبنانيين، مشروعاً وطنياً على غرار كلّ من رياض الصلح ورفيق الحريري، رغم الملاحظات وبعض التحفظات، حتى داخل البيئة السنيّة.انتظارات الشيعةيبدو الشيعة اليوم الطائفة الأكثر تماسكاً سياسياً، لكنها تواجه التحديات الأكبر. استطاع حزب الله وحركة أمل أن يختصرا، ويحتكرا، خيارات الطائفة السياسية التي لا تخلو من تمايزات عميقة. جاءت الحرب الإسرائيلية الأخيرة لتترك ندوباً لا تمحى في الراهن كما في الذاكرة وتحيي مخاوف وإحساس بالاستهداف لدى أبناء الطائفة.
وكانت خيارات حزب الله مفصلية في مآل أحوال الطائفة، هو الذي شارك في الصراعات الإقليمية وكان له نصيب من "نجاحاتها" تُرجم نفوذاً واسعاً في لبنان. تغيّرت الظروف وصارت تتطلب تغييراً موازياً وتكيّفاً من حزب الله مع الواقع الجديد و"العهد الجديد". لكن انتظارات الحزب، وجزء غير قليل من الطائفة، قد تبدو مختلفة، لعل أبرزها:
- الحفاظ على النفوذ السياسي والتأثير الكبير في السلطة. فأي تنازل قد يعتبر تحجيماً وانتقاصاً من المكتسبات في لحظة ضعف.
- الإبقاء على "سلاح المقاومة" تحت أي مسميات أو توريات. المهم أن تبقى مظلة "شرعية المقاومة" محفوظة.
- منع أي تعديل للنظام السياسي على حساب الطائفة، حتى لو كان بالممارسة وليس في القوانين، كما يجري الهمس.
- تحصين بيئة المقاومة وحمايتها سواء الميسورين من بينهم والمستهدفين بعقوبات، أو الأكثر فقراً الذين يحتاجون إلى دعم والطبقة الوسطى التي تستفيد من التوظيف والخدمات في الدولة. ويندرج من ضمن ذلك موضوع إعادة إعمار البلدات المهدمة.انتظارات الدروزمنذ نشأة لبنان الكبير وللطائفة الدرزية دورها الوازن في تشكيل المعادلات السياسية يتجاوز حجمها الديموغرافي. ما بين "الإرث" العسكري والقدرة على المناورة السياسية و"الموقع الجغرافي" استطاعت زعاماتها، لاسيما آل جنبلاط، أن يكونوا "بيضة قبان" الحياة السياسية في مفاصل كثيرة. لهذه الطائفة اليوم ايضاً انتظاراتها ولعل أبرزها:
- تكريس الدور السياسي والشراكة النديّة في السلطة مع كل الطوائف الأكبر عدداً والإبقاء على "كامل" الحصة في المؤسسات.
- تحييد الجبل وحمايته من أي صراعات أو محاولات تكريس نفوذ أو خلل في التوازنات.
- تأمين الإستقرار الاقتصادي للمناطق الدرزية التي تشهد نزيفاً صامتاً لشبابها مما يزيد من عبء الديموغرافيا المتناقصة.
- حماية خصوصية العلاقة مع دروز الجوار من دون أن يعني ذلك الدخول في صراعات اقليمية أو انحياز لقوى دون أخرى، إنما الإقامة في نقطة التوازن الشديدة الدّقة.بين "اليوتوبيا" و"الديستوبيا"لا تنتهي انتظارات الجماعات اللبنانية عند الطوائف الكبرى أعلاه. فللأرمن انتظاراتهم كما للعلويين ولسائر الطوائف وصولاً لانتظارات الخارجين من طوائفهم وعليها.
لهولاء جميعاً رهانات سياسية وانتظارات من العهد الجديد الذي عليه، رئيساً وحكومة، أن يجد السبل لتحقيق ما يفيد منها المصلحة الوطنية العامة من دون أن يشعر طرف أنه مستهدف أو مقصيّ أو يسهل تهميشه وتجاوزه. وهي أصعب المعادلات التي عليها أن تكرس سياسة المنطق الوسطي بين "يوتوبيا" (Utopie) الحالمين بتغيير جذري، وبين الهامسين والمبشرين بـ "الديستوبيا" (Dystopie) التي نسير إليها على إيقاع تطورات المنطقة ومخاضها العسير.