كان يوم الجمعة الأسود أشدّ وطأة بحصيلته الدامية على مدينة بانياس من بين العديد من المجازر التي شهدها الساحل السوري، وذهب ضحيتها مدنيون من منبت علَوي. ومن المعلوم أن أحداث الأسبوع الماضي بدأت بتمرد لشبيحة العهد البائد، وبأعمال عنف أودت أولاً بعناصر من قوات الأمن المنتشرة في الساحل، ثم أتت تعزيزات عسكرية لقمع التمرد، وقامت فصائل لم تُحدَّد هويتها بعدُ باستباحة أحياء وقرى بأكملها يقطنها العلويون، ونال حي القصور في مدينة بانياس نصيباً كبيراً من استباحة الأرواح والممتلكات.يوم السبت كتب سمير على حسابه في فيسبوك: أهلنا السُنّة في بانياس خاطَروا بحياتهم لإنقاذ عشرات العائلات من سكان حي القصور العلويين، واستضافوهم في منازلهم، وتمّ إنقاذي في الدقائق الأخيرة. عصام، من حي القصور أيضاً، كتب كلاماً مشابهاً عن السنّة الذين استقبلوه في بيوتهم. إلا أن العشرات من المدنيين في الحي لم يواتِهم الحظ نفسه فقُتلوا، وكان سمير قبل إنقاذه قد كتب على حسابه عن مقتل اثنين من أشقائه المدنيين وابن لواحد منهما.
في الثالث من أيار المقبل يصادف مرور اثني عشر عاماً على ارتكاب شبيحة الأسد مجزرة بانياس والبيضا الثانية، بعد سنتين تماماً من ارتكابهم المجازر الأولى التي انتشرت تسجيلات لها، وكانت من أوائل الفيديوهات التي تُثبت قيام الأسد بجرائم جماعية. يومها كتبنا في جريدة المستقبل مقالاً بعنوان: عودة القتلة إلى مكان جريمتهم الأولى. وعدنا فيه إلى حادثة اعتقال شباب بانياس من السُنّة، واحتجازهم والتنكيل بهم في الملعب البلدي. وجاء في السياق: "معارضان ينحدران من القسم المؤيد في المدينة أتيح لهما رؤية ما يجري بعد اعتقالهما لبضع ساعات، وضمهما إلى بقية المعتقلين، عرفهم الباقون من صوتيهما لأن العيون كانت معصوبة، فكانت فرحة وجودهما، الفرحة المريرة بالطبع، بلسماً للجرح الطائفي البغيض".تشاء السخرية المُرّة للقدر في يوم الجمعة الفائت الأسود أن يُقتل شقيقان لواحد من هذين المعارضَيْن، فضلاً عن آخرين من عائلتيهما؛ كلهم من المدنيين العزّل. آلة القتل الطائفية العمياء لم تكن لتميّز هذه المرة بين معارض وشبيح، كما هو حال آلة القتل الطائفية العمياء سابقاً. هذا مثَلٌ يعبّر عن العماء الطائفي، لكنه لا يختزل الاستباحة التامة، استباحة الأرواح والممتلكات التي ارتُكِبت في الأمس واليوم، من دون الدخول في مقارنات عددية بين الماضي والحاضر.
الصورة قاتمة جداً؟ نعم، بالتأكيد.
الواقع يدعو إلى اليأس؟ نعم، مع الأسف. لكن تعالوا ننتبه قليلاً إلى بانياس، ونتعلمْ منها.تسببت مجازر بانياس والبيضا عام 2013 بنزوح عدد كبير من الأهالي، وحسب التقديرات أيامها كانت المجازر الأسبق قبل سنتين قد تسبب بتهجير حوالى ثلثي السكان "السُنّة" من مدينة بانياس والبيضا وسهم البحر والمرقب وغيرهم. ومن المتوقع أن العودة الأكبر للأهالي المهجّرين حدثت بعد سقوط الأسد، وقسم من هؤلاء ربما شارك في إنقاذ العلويين الذين استُهدفوا بالقتل في الأيام الأخيرة.
خلال ثلاثة شهور، بعد سقوط الأسد، لم تحدث عملية انتقام واحدة في بانياس. مهلاً، يُرجى عدم التسرّع في القراءة، والانتباه جيداً إلى مغزى القول. في مدينة صغيرة، وفي مجتمع مكشوف، حيث لا يصعب إطلاقاً على ضحية الأمس معرفة الشبيح من أبناء المدينة ذاتها؛ لم تحدث عملية ثأر واحدة.نحن إزاء احتمالين، إما أن الأهالي (السُنّة) غلّبوا طوعاً وتلقائياً عوامل العيش المشترك على عوامل التفرقة والثأر، أو أن المتضررين منهم (وهم كثر) كظموا غيظهم، وانتظروا أن تأخذ العدالة الموعودة مسارها. ما نجزم به هو أن الأهالي لم يشاركوا في عمليات الثأر الطائفي التي حدثت في حي القصور، وأن أصحاب الثأر المزعوم أتوا من خارج منطقة الساحل، وعماؤهم الطائفي ينطوي على جهل مركّب (في أحسن الظنون)، لأنهم لم يستهدفوا الحي الذي يُعرف بأنهم كان يأوي العدد الأكبر من الشبيحة، وهو ليس حي القصور المنكوب، لكن الأخير ربما أكثر إغراء لجهة استباحة الممتلكات بعد الأرواح.
بانياس ليست استثناء، فمدينة جبلة المجاورة لم تشهد أيضاً أعمال عنف طائفية بعد سقوط الأسد. ميزة بانياس في رمزيتها السورية العامة، جراء المجازر التي أشرنا إليها. على العموم لم نشهد خلال ثلاثة شهور أعمال عنف طائفية بين أهالي كل مدينة أو منطقة على حدة، والعنف أو الانتهاكات أتت دائماً من خارج البيئة الأهلية المباشرة. بانياس نفسها شهدت تجاوزات فقط عندما طاردت السلطة مطلوباً، وقامت القوات التي طاردته بمصادرة أجهزة محمول من بعض السكان، وتم قطع الماء عن حي القصور، وهذا نمط من التجاوزات تكرر بكثرة في الأيام الأخيرة.في تفسيرنا لعدم حدوث أعمال ثأر، نميل إلى الاعتقاد بأنه كلما كان الخصم أبعد كلما كان قتله أسهل على قاتله. نحن تلقائياً نستنكر أعمال العنف كلما صدرت عن الأقربين، ومن الشائع استنكار أعمال الذبح مثلاً أكثر من القتل بالرصاص، لا لأنها تؤلم القتيل بل لأن قرب القاتل من القتيل لم يردعه عن القتل. هكذا أمكن لدارسي العنف في الحروب فهم تلك اللامبالاة التي يتعاطى بها الطيارون مثلاً وهم يلقون بصواريخهم على مناطق سكنية، أو أولئك الذي يجلسون في قاعدة للصواريخ ويتسامرون ويتضاحكون وهم يضغطون على الأزرار التي تذهب بصواريخهم لتدمّر مدناً بأكملها.يصحّ في حالتنا، قياساً على ما سبق، الاعتقاد بأن المباعدة الاجتماعية-الثقافية تسهّل القتل. فالقاتل الذي يحمل في رأسه صورة نمطية عن خصمه، من دون أن يعرفه عن كثب، هو أكثر جهوزية لقتله. الجهل كله مباعدة، والجهل بالخصم هو بمثابة مباعدة بين القاتل والقتيل، على غرار المباعدة التي أحدثتها الأسلحة الحديثة بينهما وجعلت من القتل أخفّ وطأة على بعض النفوس. وعندما نتحدث عن الجهل نؤكد على عدم تبريره، فلا ننسى أن الجهل المتسبب بمجازر طائفية يستند إلى خطابات طائفية معممة، وإلى أنساق ثقافية رثّة تبرر هذا النوع من الجهل بذرائع مختلفة، ومنها ما كان يصلح أصلاً قبل زمن الانترنت ووسائل التواصل، فاليوم لا عذر مثلاً للجاهل المستعدّ لترويج الأكاذيب على السوشيال ميديا، من دون أن يكلف نفسه البحث عن المعلومة الحقيقة من مصادر موثوقة على محركات البحث.
في كل الأحوال، نحن إزاء واقع دون وطني ودون دولتي، وحتى تتعزز قيم المواطنة والوطنية والدولة سيبقى من الواقعية الاعتماد على ما هو إيجابي ومفيد حالياً من أجل السلم الأهلي. نعني تحديداً ما يتعلق بأمرين، المصالحة بين السوريين انطلاقاً من الأماكن المعنية بالتماس الطائفي أو الإثني، ومساهمة الأهالي في ضبط الأمن بمناطقهم لأنهم أدرى بشعابها من سوريين على غير دراية بالحساسيات المحلية. وسيكون من المكابرة الجوفاء تجاهل هذا الواقع بذريعة تغليب ما هو وطني، لأن بلداً يحاول النهوض من تحت الصفر لا يستقيم الزعم فيه بوجود وطنية ناجزة.رغم كل ما حدث مؤخراً، وهو ليس بقليل، يمكن القول أن المصالحة الوطنية السورية غير مستحيلة، ولا تبدأ مما دون الصفر، فيما لو انتبه جيداً المعنيون بها إلى الدرس الذي قدّمته بانياس مرتين وتعلّموا منه؛ مرة عندما لم تحدث أعمال ثأر طائفي بين الأهالي، ومرة ثانية عندما بادر السُنة إلى إنقاذ واحتضان العلويين. لقد كان جزءٌ لا يُستهان به من المشكلة مع العهد البائد أنه استثمر في الاختلافات المجتمعية، ونجح في اصطناع العداوات، والمرجوّ اليوم ألا تستعاد تلك السياسة فلا يُفسَد نموذج بانياس وغيرها، بل يُبنى عليه، وانطلاقاً من كل منطقة على حدة صوناً للسلم المجتمعي، على الأقل حتى يتم الانتهاء من ملف العدالة الانتقالية.
على امتداد المناطق المختلطة، من بانياس والحولة ومصياف والقدموس وصولاً إلى الجزيرة، هناك بنات وأبناء للمدن والبلدات قادرون على فعل الكثير من أجل السلم الأهلي، ونعلم أن الموجودين منهم في الساحل لم يقصّروا قبل الأحداث الأخيرة، ومن خلال مبادرات مستقلة لم تلقَ اهتماماً من السلطة. اليوم، إذا كانت الأخيرة راغبة في تجاوز ما حدث، فهي بالتأكيد ستجد شركاء غيورين على سلمهم وسلم أهاليهم، ما يتطلب منها التخلّي عن منطق الوصاية والتفرّد بالقرار، لأن المصالحة والسلم تحديداً لن يأتيا من فوق.الآن، ونحن نقترب من ذكرى مجزرتَيْ بانياس في 2011 و2013، (راجع النص هنا) يجدر التفكير بتكريم ضحاياهما. جزء من تكريم ضحايا الأمس أن يُكرَّم الضحايا المدنيون الذين قُتلوا في الأيام الأخيرة، فلا تكون ثمة مفاضلة بين دماء الضحايا.