تقريباً، في النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين، كان رمضان يعني لنا: شريهان. لنا، نحن المراهقات وحتى الطفلات المتطلّعات إلى المرَاهقة واكتناز علامات أنوثهنّ. حتّى الأمّهات أحببن شريهان. بقي الآباء والذكور على وفائهم لنيللي وفوازيرها، ولم تلفتهم أبداً "ألف ليلة وليلة" بكلّ بريق جواهرها وتيجانها. بدا ذلك منطقياً، فألف ليلة وليلة صُنعت لنا، على مقاس عقولنا الحالمة، شريهان نفسها بدت كأنها صُنعت لنا، واجتهدنا بحماسة وتلهّف على أن نصير نحن على مقاسها، لنرتدي ملابسها وتيجانها وعقودها وحتى مكياجها وشكل حاجبيها وانتفاخ شفتيها وشعرها الخلّاب. لحقنا بركب "موضة شريهان"، فكنّا نطلب من الكوافير "تسريحة شعر شريهان"، ونشتري زيتاً للشعر اسمه "شريهان" يدّعي أنّه يقوّي شعرنا ويطيله ليصير كشَعر النجمة المصرية الناعم الطويل والصحّي.تواءم جمالها مع الذوق العربيّ، بملامحها الشرقيّة التي لم تخالطها جينات أرمنية أو شركسية مثلاً- كما في حالة نيللي وبوسي وليلى علوي- تحديداً الشعر الأسود الغزير الطويل الأملس، الذي لا يرتبط بمقاييس الجمال العربية فحسب، بل بالقيمة الاجتماعية أيضاً. فهو كان تاريخياً دليل رخاء ورفعة اجتماعية، تجعل صاحبته في طبقة أرقى من صاحبة الشعر الأجعد الدالّ على تعرّض صاحبته للشمس والهواء الجافّ والعمل في العراء. لكنّنا لم نطمع فقط في شعرها وفساتينها، بل أيضاً بعريسها، الأمير الوسيم والثري والذي يمكنه بناء قصر لنا في طرفة عين وأخذنا على الحصان الأبيض. ببراعة كبيرة أقنعتنا أنها أميرة من الليالي الألف، وأكملت صورة أميرات القصص الشعبيّة التي تغذّى عليها خيالنا في الطفولة من قصص الجدّات، ثمّ من جدّنا الذي لا نعرفه أو يعرفنا: "والت ديزني".شاركت شريهان في تصميم ملابسها وطلّاتها التلفزيونية، وربما الرقصات أيضاً، هي التي درست الرقص في معاهد خاصّة منذ الطفولة. لعلها أوّل فاشونيستا عربية عرفناها، وقبل أن نستورد العبارة بعقود. هذا يذكّرنا بسندريلا التي كانت خيّاطة أيضاً، قبل أن يتدخّل قدرها وينتشلها من الظلم وينقلها إلى القصر.شريهان كانت سندريلا عصرنا، بفساتين السهرة الواسعة المطرّزة والجواهر البرّاقة وتسريحات الشعر الجميلة. بدت كالحلم يومض ويختفي. وقد اختفت بالفعل. انتهى عمر شريهان الملكيّ الساحر باكراً.
في قمّة نجاحها كنجمة للفوازير ومسلسل ألف ليلة وليلة، تعرّضت الفنانة الشابّة لحادث سير مروّع كسر بعض عظامها. بعد سنوات من العلاج والتعافي عادت لتقدّم الفوازير من جديد، لكنّها لم تكرّر تلك التجربة. ليس الأمر أنّها لم تعد تصلح لهذه البرامج الاستعراضية أو بسبب منافسة قويّة وشرسة مع نيللي، أو تخبّط قطاع الإنتاج الترفيهيّ آنذاك، فمن تابع شريهان سيعرف أنّها رأت نفسها أكبر من أن تُسجن في قصر الأميرة الجميلة، وأنّ الامكانات المتاحة لا تعطيها سوى هامش ضيّق للتطوّر والتميّز موسماً بعد آخر. النجمة الأنيقة والسنوب والمدلّلة كانت ذكيّة أيضاً وطموحة وتدرك أنّها أكثر من مادة تُستهلك ويعاد تدويرها كل رمضان لتسلية الجمهور.الحظّ السيّئ لاحقها بشكل دراماتيكي، إذ تصاعد مع وفاة المخرج عاطف الطيّب قبل إنهاء فيلم "عرق البلح"، الذي مُنحت فيه دور عمرها وعُوِّل عليه ليكون ولادة جديدة لها، وبلغ ذروته مع إصابتها بالسرطان. تحوّلت شريهان إلى حكم "المعتزلة".لم تحتج إلى الشفاء من السرطان فقط، بل من القدر نفسه. ونحن احتجنا إلى استيعاب ما حدث: "الأميرات يصبن بالسرطان أيضاً، ويفقدهنّ العلاج الكيماويّ شعرهنّ البديع!" أليس محزناً أن يتساقط ذاك الشعر الذي نما بالشبر والنذر؟ كم من الوقت سيستغرق لتطيله لاحقاً؟! أليس مؤلماً أن تتردّد نجمة أحلامنا على جلسات العلاج المنهكة بدلاً من جلسات التصوير؟ يبدو أنّ أوّل من تعلّم الدرس هو الأميرة نفسها. عرفت أنّ الحكاية لا تنتهي مع حفلة زفافها، وقد تعلّمنا هذا منها. أعطتنا الأجابات بعدما منحتنا ذاك الهامش الضروري من الحلم.في المقابل، ماذا حصل لأميرات ألف ليلة وليلة أثناء تغيّب شريهان القسريّ؟ باءت كلّ محاولاتهنّ بالفشل، ولم تناسبهنّ فساتين الأميرات ولا ناسبت مقاسات الأحذية أقدامهنّ. ليلى علوي رغم جمال وجهها، لم تنجح. ممثّلات ومطربات أخريات ساهم فشلهنّ في إيقاف ذاك التقليد الرمضانيّ، وطغت المسلسلات الطويلة وبرامج المقالب والكاميرا الخفيّة على اهتمام الجمهور... حتّى تغيّر المزاج والذائقة مع الثورة الرقمية وبرامج تحت الطلب.
ما عادت الفتيات اليافعات بحاجة إلى أميرة يتماهين معها ويتطلّعن إلى حياتها ومصيرها. لم تعد تلك الفكرة مغرية لأجيال لحقت بنا، وهي ليست مناسبة لمراهقات اليوم، وليست لبناتنا بالتأكيد. فغير "باربي" التي ينتهي تأثيرها عند حدود المراهقة، تتطلّع الشابات اليوم إلى تايلور سويفت واستعراضاتها وثروتها، كذلك بيلي آيليش وثروتها، وانفلونسيرز السوشيال ميديا وأيضاً ثرواتهنّ. "الثروة" التي تجنيها النجمات المعاصرات، لا المهر الذي يدفعه الأمير للفتاة. سفينة الأميرات، غرقت فكانت النجمات أوّل القافزات منها. الأميرة ديانا أُهينت ثمّ قُتلت، وبعد عقدين من الزمان سترفض زوجة ابنها الحياة الملكية وتفرّ من القصر. ظهرت نانسي عجرم في أوّل أغنياتها تنظّف البار الذي تديره، وبعد سنوات ظهرت كبائعة بطيخ، ومؤخراً كسيدة أعمال تبرم صفقات كبرى بين شركتين في ناطحة سحاب.ستبقى لنا من طفولتنا ومراهقتنا الحالمة حكايات تبدأ بـ"كان يا ما كان بنت اسمها سندريلا"، وحكايات تبدأ بـ"كان يا ما كان أميرة اسمها شريهان". تنتهي حكاية سندريلا عند دخول القصر، وتنتهي حكاية شريهان عند دخول المسرح لتقدّم -وهي في الخمسينات من عمرها- دور كوكو شانيل، تصنع القبّعات وتصمّم الملابس وتخيطها وترقص التانغو والفالس والكلاكيت والكان-كان وعلى واحدة ونصّ أيضاً. كان لا بدّ لنا أن نحلم... وشريهان جعلت هذا ممكناً.